تستضيف هسبريس، من خلال هذه السلسلة من الحوارات، المعتقل السياسي السابق محمد الأمين مشبال الذي حكم عليه آنذاك ب20 سنة، في إطار محاكمة الدارالبيضاء لسنة 1977 والتي حوكم فيها 139 من النشطاء السياسيين ينتمون لتنظيمات ماركسية لينينية كانت تروم تغيير النظام القائم بالعنف وإقامة نظام جمهوري على غرار أنظمة "الديمقراطيات الشعبية" التي كانت قائمة في أوروبا الشرقية وبلدان أخرى من قبيل كوبا والفيتنام. في هذه الحلقات يحكي محمد الأمين مشبال تجربة استغرقت 14 سنة، أي ابتداء من خطواته في منظمة "إلى الأمام" مرورا بتجربة التعذيب والانهيارات في المعتقل الرهيب لدرب مولاي الشريف والمحاكمة، وصولا إلى الصراعات السياسية داخل السجن وتفاصيل الحياة اليومية داخل أسوار السجن. وبقدر ما تنقل لنا هذه الحلقات حجم المعاناة الإنسانية، فإنها في نفس الآن تكشف جوانب مهمة من تاريخ المغرب الراهن التي لازالت في حاجة إلى بحث وتمحيص. بعد مغادرة السجن تم توظيفكم بعمالة تطوان..كيف عشت تلك التجربة؟ أياما معدودة بعد مغادرة عبد ربه السجن المركزي رفقة عبد العزيز الطريبق وعزوز لعريش و المرحوم محمد اللبناني، استدعتنا وزارة الداخلية للحضور إلى مدينة الرباط واستقبلنا الراحل إدريس البصري، الذي بلغنا رضا الملك الراحل الحسن الثاني، وطرح علينا فكرة التوظيف إما بمدينة الرباط أو بأي مدينة أخرى. فضل الجميع وقتها الاشتغال بالمنطقة التي توجد بها عائلته. كان اختيارا صائبا من الناحية العاطفية بعد فراق الأهل أزيد من عشر سنوات، لكنه كان اختيارا سيئا من الناحية المهنية والدراسية. تم تعييني بعمالة إقليمتطوان بداية 1987 بالقسم التقني. قضيت فيه سنة واحدة ثم تم نقلي إلى قسم الجماعات المحلية للإشراف على مصلحة الممتلكات، وهي مصلحة كانت مجرد اسم بدون مسمى. خلال تلك الفترة تقدمت بطلب الحصول على جواز رفقة الصديق الطريبق، إلا أننا فوجئنا بالمماطلة زهاء ثلاث سنوات من طرف محسن التراب عامل الإقليم آنذاك. حاولنا مقابلة العامل بدون نتيجة. ولما أعلن الملك الراحل سنة 1979 قراره بتشكيل مجلس استشاري لحقوق الإنسان، قمت رفقة الطريبق ببعث رسالة تظلم تحت إشراف عامل الإقليم، مما أغضب العامل محسن التراب استدعانا ليوبخنا أمام الموظفين، وأذكر جيدا أنه قال لنا إن هذا السلوك في غير محله وهل نريد بذلك تخويفه؟ فأجبناه أن الحصول على الجواز حق مشروع وأن بقاءنا بالمغرب ليس مربوطا بمسألة الجواز، وإن أردنا مغادرة المغرب فلن تعوزنا الحيلة، لكننا نحن هنا باقون. ولم يتم الإفراج عن جواز السفر إلا بعد مرور شهور أخرى . في نفس الفترة تقدمت بطلب ترخيص لاجتياز مبارة بالمعهد العالي للصحافة بالرباط، ومرة أخرى ووجه الطلب بالمماطلة واللامبالاة، مما حرمني من فرصة متابعة الدراسة وتحسين وضعيتي الإدارية سنوات طويلة. بماذا تفسر سلوك عامل الإقليم آنذاك؟ من الصعب جدا أن أقدم تفسيرا لذلك السلوك العدائي.. لكن مع مرور الزمن ومعرفتي عن قرب بعقلية الإدارة الترابية أعتقد أنه يصعب على التراب أن يتصرف بذلك الشكل دون المباركة الضمنية على الأقل للمسؤولين في الإدارة المركزية. الأكيد هو أن تلك التجربة جعلتني أحس طيلة عملي الإداري (باستثناء الفترة التي قضيتها رهن إشارة الجماعة الحضرية لتطوان) بالاغتراب وبالتوجس في آن واحد، وبأن المسؤولين المركزيين آنذاك في الداخلية وضعوني لديهم داخل إقامة إجبارية ذات جدران لا مرئية. اشتغلت سنوات طويلة مكلفا بالاتصال، كيف حصل ذلك وماهو تقييمك على ضوء ذلك إلى تجربة الإعلام المؤسساتي بالمغرب؟ بعد دخول المغرب تجربة المجموعات الحضرية بالمدن الكبرى سنة 1992، كنت من ضمن مجموعة من الموظفين والتقنيين الذين وضعتهم العمالة رهن إشارة المنتخبين بغية المساعدة على تسيير مرافقها (كان العامل أو الوالي آنذاك الآمر بالصرف). بعد التحاقي بأشهر قليلة عرضت على أول رئيس منتخب لها آنذاك الأستاذ عبد السلام بركة مشروع تأسيس خلية للإعلام والتواصل بالمجموعة الحضرية فرحب بالفكرة، فكانت انطلاقتي في هذا المجال. ولما تم وضع حد لوضعية رهن الإشارة في بداية سنة 2000، تم تعييني بمصلحة الإعلام والاتصال بولاية تطوان حيث أصبحت مكلفا بها منذ 2004 إلى حين تقاعدي صيف 2015. تجربة الإعلام المؤسساتي تحتاج إلى تقييم خاص، لكن على العموم وحسب تجربتي الخاصة وما عايشته فإنه يخضع لمزاج والتقدير الشخصي للوالي أو العامل. فمثلا عاش الإعلام المؤسساتي عصره الذهبي في تطوان إبان عهد الواليين الغرابي والمباركي، حيث كانا يحرصان على التواصل مع الصحفيين وإبلاغهم بتفاصيل كل المشاريع المبرمجة، وكانت مصلحة الصحافة تقوم بدور حيوي في هذا الإطار. لكن بعد انتقالهما من تطوان تم تهميش المصلحة تدريجيا إلى أن أصبح الحصول على المعلومة من سابع المستحيلات، بل لم يعد هناك حاليا مخاطب في هذا المجال. بعد توظيفك بعمالة تطوان أسست جريدة محلية. كيف جاءت الفكرة؟ في دجنبر1992 أسست جريدة "الجسر" بمعية مجوعة من الأصدقاء، عبد العزيز الطريبق لطيف كاسيدي وفوزية المامون وسيلتحق بها آخرون كعثمان الغنامي وسليمان الخشين. كان يجمعنا حب العمل الصحفي وخوض تجربة إعلامية تهتم أساسا بتغطية كل ما يدور بمدينة تطوان بصفة خاصة والجهة بصفة عامة من أنشطة ثقافية ورياضية واجتماعية وسياسية، والإسهام في إبراز موروثها الحضاري. مع الانفتاح على مختلف الآراء والتوجهات السياسية بحيث نحافظ على مسافة من الجميع والاعتماد على أخلاقيات المهنة، وهو ليس بالأمر الهين. واستمر الإصدار بوتيرة عدد في الشهر إلى أن توقفت بعد عشر سنوات من الإصرار وتحدي الصعاب. وهل حصلت على دعم السلطة المحلية لتمويلها؟ أما مسألة دعم السلطة فمجرد كلام فارغ إذ كنا نعتمد على ما نحصل عليه من مداخيل قليلة من الإشهار ومن تهاني المناسبات الوطنية لتمويل الطباعة. ولما احتجنا إلى تمويل اقتناء حاسوب وطابعة وسكانير وتجهيزات مكتبية بما قدره خمسة مليون سنتيم، قمنا باقتسام المصاريف بالتساوي أنا وعزيز الطريبق وعثمان الغنامي والأستاذة فوزية المامون، بالإضافة إلى كل ذلك كنا نقوم بالتصفيف والإخراج وكتابة النصوص وعملية التوزيع بشكل مجاني وتطوعي. طيب، لماذا لم تحاولوا تأسيس شركة تتوفر على رأسمال كاف لخوض تجربة إعلامية احترافية؟ فعلا حاولنا في سنة 2011 تأسيس مقاولة إعلامية على شكل شركة مساهمة يكون لها رأس مال قادر على تشغيل صحفيين وتقنيين في أفق خوض تجربة صحيفة جهوية أسبوعية. لكن لم نجد الاستجابة المرجوة، ورغم ذلك خضت المغامرة برأسمال صغير رفقة بعض أفراد الأسرة والأصدقاء المقربين وأصدرنا فعلا جريدة ورقية ما لبثت أن توقفت بعد شهور معدودة بسبب الإكراهات المالية وضعف سوق الإشهار والمقروئية وهي مشاكل تتقاسمها الصحافة الورقية حاليا. ولا زلنا لحد الساعة متابعين من طرف مصالح الضرائب لتسوية مخلفاتها. لماذا لم يجد مشروعكم الإعلامي صدى ايجابيا لدى النخب الاقتصادية أو السياسية بتطوان ؟ لا يجوز عقد مقارنة بين الواقع والدينامية الاقتصادية الموجودة ما بين تطوان وطنجة، فبالأحرى مع الدارالبيضاء، وكما يقول الفقهاء لا قياس مع وجود الفارق. فبعد استقلال المغرب حصل تراجع كبير في النسيج الاقتصادي لمدينة تطوان بعد أن كانت عاصمة خليفية وتتوفر على خط سكك حديدية وتضم عشرات المعامل، كما عاشت، على غرار باقي الأقاليم الشمالية، عقودا من التهميش مما جعل اقتصاد هذه المناطق يعتمد على ثالوث الهجرة والكيف والتهريب. من هنا فإن المشاريع الصغيرة والمتوسطة الموجودة عموما، لا تمتلك ثقافة الإشهار ولا تحتاجه لترويج منتوجاتها، علاوة على ضعف الإعلام المحلي. أما ما يسمى بالنخب السياسية المحلية (باستثناءات قليلة)، فقد دأبت على سياسة استقطاب الأعيان وشراء الأصوات والتزلف إلى السلطة لكسب موطأ قدم لها داخل المؤسسات المنتخبة، وإما القيام بحملة انتخابية لا تتوقف تحت غطاء الخطاب الدعوي والعمل الخيري الذي لا يكون من أجل كسب مرضاة الله، بل من أجل الفوز بالأصوات. فهذه العقليات المتخلفة لا تفقه معنى التواصل السياسي ولا تؤمن بجدوى بناء استراتجية إعلامية تروم التأثير وصنع الرأي العام على المدى المتوسط والبعيد، مادام العزوف منتشرا والورقة الزرقاء تقوم بالباقي. عرف المغرب خلال العهد الجديد تجربة مهمة عرفت ب"الإنصاف والمصالحة"، فكيف كان تفاعلك معها وماهو تقييمك لها ؟ أعتقد أنها كانت على العموم إيجابية لأنني أعتبرها جزء لا يتجزأ من مسلسل طويل للتربية على نشر ثقافة حقوق الإنسان وبأن إقرار الدولة بشكل ضمني بمسؤوليتها عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان حيث كان التعذيب والاختطاف العملة السائدة، والسياسة الرسمية للدولة ليس في مواجهة معارضيها السياسيين وحسب بل ضد كل التحركات الاجتماعية والنقابية مما جعل المواطنين يهجرون العمل السياسي ويخافون من مغبة مجرد انتقاد مسؤول في السلطة المحلية فبالأحرى انتقاد سياسة الدولة واختياراتها. من جهة ثانية أتفهم رغبة البعض في محاسبة الجلادين أمثال اليوسفي قدور الذين أشرفوا على تعذيب آلاف المناضلين بل وقتل البعض منهم، لكنني أعتقد أن تلك الممارسات لم تكن اعتباطية أو فردية بل كان أولئك الأشخاص يشتغلون ضمن أجهزة للدولة وكانوا أدوات تنفيذية لسياستها في تلك الحقبة التاريخية. من جهة ثانية فإن مسلسل الإنصاف والمصالحة لم يأت نتيجة "ثورة شعبية" بل يندرج في إطار مسلسل طويل ومعقد من التوافقات ومد وجزر يعيشه المغرب منذ ما سمي في تسعينيات القرن الماضي ب"التناوب التوافقي". لكن ما لم أفهمه في تجربة الإنصاف والمصالحة وفي تجارب حقوقية أخرى عاشها المغرب في تلك الفترة، هو تزعمها من طرف عناصر كانت إلى حدود ليلتها الأخيرة في السجن تدعو للثورة البروليتارية وتضطهد من يخالفونها بالرأي وتعزلهم وتدفعهم نحو الجنون. لكن أليس من حق المرء أن يغير قناعاته واختياراته السياسية إذا ما تبين له أنها لاتتماشى وتحولات الواقع ؟ طبعا من حق تلك العناصر في تغيير قناعاتها لا نقاش ولا ريب فيه، بل هو أمر محمود. لكن أولئك الأشخاص كانوا عناصر قيادية في منظمة "إلى الأمام" ولهم نصيبهم من المسؤولية الأخلاقية والسياسية في اضطهاد العديد من المناضلين داخل السجن والدفع إلى إغلاق كل منافذ الحوار وتأزيم الوضع حتى يبقى معتقلو القنيطرة رهائن وورقة دعائية في يدها وبيد اللوبيات الأجنبية التي كانت تدعمهم آنذاك. من هنا كان المطلوب والمفروض من أولئك الرفاق أن يقدموا نقدا ذاتيا علنيا يعتذرون فيه لضحاياهم من جهة، ويشرحون للرأي العام المنطلقات والأسس السياسية والأيديولوجية التي جعلتهم ينتقلون من خدمة الثورة إلى خدمة الدولة من جهة أخرى. ارتباطا مع هذا الموضوع كيف تنظر إلى بعض الكتابات والمذكرات التي صدرت في السنوات الأخيرة حول تجربة الاعتقال السياسي بالمغرب أو مذكرات زعماء سياسيين؟ فيما يخص ما سمي ب"أدب السجون" فباستثناء (إدريس بيوسف الركاب "في ظلال للا شافية "وعبد العزيز الطريبق في "إلى الأمام"تشريح محنة")، فإن باقي كتابات الرفاق الذين عاشوا التجربة اقتصروا على جانب المعاناة الناجمة عن الاختطاف وظروف التعذيب والاعتقال بدرب مولاي الشريف والمحاكمة الصورية، وهي أمور واقعية ويتعين ذكرها بل وحتى التشهير بها لأنها جزء لا يتجزأ من نضالات الحركة التقدمية المغربية وجزء أيضا من ذاكرتنا الجماعية. لكن بالمقابل، فإن الأجيال الحالية والقادمة من حقها أن تعرف لماذا تأسست الحركة الماركسية اللينينية وماهي أطروحاتها وتوجهاتها، ولماذا فشلت، وكيف تعاملت مع تناقضاتها الداخلية، وكيف ولماذا انتقلت "23 مارس" ثم "إلى الأمام" إلى العمل العلني في صيغة جديدة ...إلخ. بطبيعة الحال كل حديث عن تلك الجوانب قد يثير الجدل أو حساسيات واعتراضات البعض ممن عاشوها لأن الكشف عن بعض الجوانب الخفية من التجربة قد يتناقض مع الصورة التي يقدمها البعض لذواتهم والتي قد تكون أحيانا صادمة. هذا الإشكال أو النزوع المرضي نحو طمس كل ما هو مزعج في الماضي وعدم مصارحة المغاربة نجدها للأسف راسخة حتى لدى زعماء الحركة الوطنية الذين لا زالوا على قيد الحياة يتهربون من الكشف عما تختزنه ذاكرتهم عن مفاوضات إيكس ليبان مثلا أو الصراعات السياسية ما بين أجنحة الحركة الوطنية بعد الاستقلال والتي أدت إلى اغتيال مناضلين وطنيين مرموقين أمثال ادريس الطود أو عباس المسعدي. وحتى البعض ممن أراد كسر تقاليد الصمت فإنه إما أراد أن يستعرض منجزاته ويلمع مساره الشخصي كما هو الشأن في كتاب "المغرب الذي عشته" لعبد الواحد الراضي، أو تجاهل ومر مر الكرام على وقائع حرجة من التاريخ الحديث كأسباب وحيثيات الانقسام داخل حزب الاستقلال سنة 1959، أو بأحداث يوليوز1963 أو ما سمي آنذاك ب"المؤامرة ضد الملك" وخصوصا أحداث 3 مارس 1973، كما هو الشأن في مذكرات عبد الرحمان اليوسفي التي عنونها ب"أحاديث فيما جرى". عدت في السنوات الأخيرة إلى مقاعد الدراسة، فهل كان لذلك علاقة بطموحك المهني؟ كما ذكرت سابقا تخليت عن كل طموح مهني منذ السنوات الأولى بعد تجربة الحصول على جواز السفر، واعتبرت أن تحقيق ذاتي يكمن في اكتشاف عوالم صاحبة الجلالة ومواصلة دراساتي العليا وهو ما تحقق لي وإن كان في وقت متأخر.عموما أعتبر نفسي محظوظا بمتابعة دراستي بسلك ترجمة صحافة تواصل في مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة. استفدت من خبرة بعض الأساتذة القلائل الذين كانوا جديين في تأدية عملهم والذين فرضوا علي بذل مجهود للمواكبة والانفتاح على تخصصات ومعارف جديدة. كما تعرفت على جيل جديد من الشباب الرائعين يتوفرون على طموح وتكوين جيد، وسعدت بكسب صداقة البعض منهم. وماذا عن انشغالاتك الحالية؟ حاليا أنا منشغل بإعداد أطروحة دكتوراه حول موضوع الخطاب السجالي السياسي في المغرب المعاصر من خلال نموذج الأستاذ عبد الإله بنكيران، باعتباره ظاهرة فريدة في السجال والخطابة السياسية، وباعتبار المرجعية السياسية والإيديولوجية التي ينهل منها تشكل مادة خصبة جديرة بالدراسة الأكاديمية والعلمية الرزينة.