يعيش المغرب في السنوات القليلة الأخيرة وإلى اليوم على إيقاع الاحتجاج؛ وارتفاع منسوب عدم الثقة في المؤسسات؛ وشيوع روح السلبية والتشاؤم في الخطاب حول الواقع والمآل في الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي؛ وتزايد الإحساس بضعف الدولة وارتجالها القرار؛ واهتزاز الثقة في المستقبل والقدرة على كسب الرهان التنموي.. ولعل الاحتجاجات الجهوية التي عرفتها المملكة في مناطق مختلفة كسيدي إفني، والحسيمة، وجرادة، وزاكورة..؛ والتوتر السياسي الذي عاشته البلاد قبل إعفاء بن كيران وبعده؛ ونزيف الشرعية الذي تعاني منه مؤسسات الوساطة الحزبية والنقابية الذي يهددها بالموت؛ وظاهرة المقاطعة الاقتصادية... كلها أعراض أزمة حادة تعيشها المملكة. ولا شك أن هذه الأعراض (السياسية والنفسية) التي بدت على قطاع عريض من المغاربة أفقيا وعموديا تبعث على الخوف والقلق العظيم، وأدت بالكثيرين في صفوف النخبة وخارجها إلى الانطواء، وشلت قدرتهم على المبادرة السياسية المثمرة والمسؤولة لمواجهة الاختلالات والتعثرات، وأدخلتهم -أيضا- مرحلة فراغ وغموض في الرؤية، جعلتهم في حالة انتظار سلبي. إن المسؤولية اليوم تقتضي وباستعجال عمل كل الأطراف المعنية بإنتاج السياسة بالبلد، وبكل الوسائل للخروج من هذا الوضع المنذر بالشر، وذلك أولا بتحليله والسعي إلى فهمه، واتخاذ ما يلزم من القرارات والإجراءات والسياسات التي من شأنها تعزيز الثقة في المستقبل، وصون أمل المغاربة في التقدم واللحاق بنادي الدول المتقدمة، وعلى كل من يحمل في قلبه ذرة من الوطنية المساعدة على ذلك. ومما لا شك فيه أن مثل هذه المسؤولية وفي مثل هذا الظرف هي مسؤولية فوق سياسية، مسؤولية لا تتعلق حصرا بالسياسي، بل مطلوبة في الكل ودون استثناء. وقبل الخوض في إجراءات الأمل، لا بأس من الإشارة إلى طبيعة هذه الأزمة وجذورها؛ فقد دخل المغرب مع بداية القرن الحالي تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس عهدا جديدا، ولمس المغاربة أسلوبا جديدا في الحكم مختلف في كثير من قسماته عن عهد المرحوم الحسن الثاني، وكانت عبارة «المفهوم الجديد للسلطة» التي تصدرت الخطاب الرسمي في بداية حكم «الملك الشاب» العنوان البارز لهذا الأسلوب، الذي توخى ترميم العلاقة بين السلطة والشعب، وتوسيع الإحساس بالثقة في الدولة ورجالاتها، وإضفاء الطابع المدني على مؤسسات السلطة..، وبلغ هذا العهد ذروته بصوغ طموح جماعي ومشترك، يكون بمثابة مرجعية عليا لمبادرات الدولة والفاعلين السياسيين نحو المستقبل الآمن، والذي تمثل في تقرير «50 سنة من التنمية البشرية بالمغرب وآفاق سنة 2025». ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا التقرير لا تكمن أهميته في التوجهات والاختيارات التي تضمنها على أهميتها ودقتها، بل تكمن بالأساس في الحماس الجماعي والروح الوطنية التي أطرته، والرغبة الصادقة والجماعية في بناء مغرب الأمل والعيش الكريم، قد يكون البعض غير راض عن الاختيارات التي أوصى بها التقرير، أو غير راض عن حجم إسهامه في بناء أفكار التقرير/المرجعية..، لكن مهما تكن تحفظات وملاحظات البعض على هذا العمل، فإنه رمزيا ثورة حقيقية في أسلوب حكم الملكية المغربية، وتجسيد حقيقي لمفهوم «الديموقراطية التشاركية» في بناء الطموح السياسي الجماعي للمغاربة.. لقد تحدث التقرير بإسهاب عن التعثرات والتحديات التي عرفتها المملكة منذ استقلالها، وأشار إلى الفرص والإمكانيات المتاحة أمامها لتفادي سيناريو الإفلاس والفشل العام وكسب رهانات الإصلاح، وهو ما تحدث عنه بإسهاب في فقرة «السناريو المأمول»، ولعل الوقت مناسب اليوم للتذكير -باختصار- بهذه الرهانات الكبرى، وتأملها بعد مرور حوالي 13 عاما على صدور التقرير وبداية العمل وفق توصياته. إن مستقبل المغرب وتقدمه وكرامة شعبه مرتبط -حسب هذا التقرير- بكسب خمسة رهانات كبرى: - توطيد الممارسة السياسية العادية، وإقفال قوس الانتقال الديموقراطي بالوصول إلى وضع ديموقراطي سليم، وأيضا تقوية التماسك الوطني وتحسين نظام الحكامة؛ - توفير شروط اندماج قوي للمغرب في مجتمع المعرفة (مدرسة النجاح)؛ - إعادة بناء اقتصاد تنافسي يستفيد من انفتاح النافذة الديموغرافية؛ - ربح رهان مكافحة جميع أشكال الإقصاء وإعادة تنظيم التضامنات والتغلب على الفقر؛ - استغلال فرص الانفتاح ومواجهة تحدياته وتجنب مخاطره، والمضي في مقاربات جديدة.. إن الممارسة السياسية والبرامج الحكومية على مدى أزيد من عشر سنوات بالمغرب كانت ترجمة ممكنة من بين ترجمات أخرى لهذه الغايات الاستراتيجية التي جعلها المغرب مفتاح الأمل، والمنقذ من الظلال، فهل يا ترى اقترب المغرب من تحقيق هذه الغايات قبل سبع سنوات من 2025 التي جعلها التقرير سنة نهاية السير؟. ربما لا نحتاج لاستدلالات واستطرادات طويلة لاكتشاف السير البطيء للمملكة باتجاه «سيناريو الأمل»، بطء يشكك في إمكانية الوصول إلى المحطة الأخيرة في هذا الانتقال الصعب والمصيري، فلا زال مغرب العهد الجديد بعيدا عن إقرار حياة ديموقراطية سليمة وعادية، ويواجه في هذا السياق تحديات داخلية مرتبطة بفوضى البنية السياسية ولا معقوليتها، وحالة اللاتوازن التي تميزها، وعجزها الوظيفي، بالإضافة إلى تداعيات الربيع العربي منذ سنة 2011، ونفوذ الإسلاميين، والاشتراطات الإقليمية والدولية المرتبطة بهم..، وفي السياق نفسه لا زالت الحكامة في المؤسسات العمومية معضلة حقيقية، فالتفاوت الكبير بين الجهد المالي والبشري وبين الإنتاجية داخل هذه المؤسسات يؤشر على كارثة حقيقية تتضخم في صمت. ومن ناحية أخرى لا زالت المدرسة العمومية المغربية بعيدة عن أهدافها في بناء مجتمع المعرفة، وتعاني من فشل مزمن على أكثر من صعيد، ليس أقله هزالة جودة الخريجين وضعف كفاءتهم الثقافية والعملية، الشيء الذي انعكس سلبا على سائر المجالات وفي طليعتها المجال الاقتصادي؛ وفي المجالين الاقتصادي والاجتماعي، لا يختلف الحكم والوضع، فلا زال الاقتصاد المغربي يعاني من مشكلة التنافسية، وضعف المردودية الاجتماعية، ويعاني -أيضا- من الانعكاسات السلبية للريع، كما أن مستويات الفقر ومظاهره لا زالت عالية في المغرب بالرغم من الجهود المبذولة على أكثر من صعيد وخاصة في العالم القروي وأحزمة المدن.. إن الحراك الاحتجاجي الذي يعيشه المغرب، وحالة الارتباك البادية على نخبته السياسية، وهشاشة التماسك الوطني، وأزمة الثقة.. هي أعراض طبيعية ومباشرة لبطء السير في طريق الأمل، وضعف الإنجاز في المجالات الاستراتيجية التي حددها التقرير، والتي جعلها بوابات الخلاص والأمن والاستقرار، وهذه الأعراض الخطيرة مرشحة للتزايد كما ونوعا إذا لم يبادر أهل الحل والعقد في البلد من سياسيين وقادة إلى الخروج من حالة الارتباك والانتظار القاتل وباستعجال. ومما يجدر الالتفات إليه في هذا السياق، وتأمله بقدر من الهدوء والبرودة ما يلي: لماذا تعثر المغرب في كسب استحقاقات تقرير الخمسينية، وتحقيق تقدم معقول ومقبول على صعيد الديموقراطية والتنمية البشرية؟، هل الأمر يتعلق بتقصير القيادة السياسية وتهاونها في القيام بمسؤوليتها أم يتعلق بعوامل موضوعية وأخطاء تدبيرية؟، أم بالأمرين معا؟ إن بحث هذا السؤال ومحاولة الجواب عنه أمر حيوي وذو أهمية بالغة لاستئناف السير أو تسريعه، ويمكن الإشارة بين يديه إلى جملة من العوامل المفسرة لهذا التعثر وفي مقدمتها: أحداث 2011 والصعود القوي للإسلاميين، فلو تصورنا تاريخا آخر غير الذي جرى، وحضور أقل للإسلاميين، لكنا اليوم إزاء مغرب آخر، لقد فقدت الدولة المغربية في خضم أحداث 2011 تركيزها الاستراتيجي على أهداف 2025م، وانشغلت بملفات وقضايا طرحتها أوضاع 2011م، وهو ما أتاح الفرصة لتفاقم أزمات «سيناريو الفشل»، التي نعاني من بعضها اليوم. إن تصميم الإقلاع السياسي في بداية العهد الجديد تأسس على فرضية أن «الإسلام السياسي» عنصر أزمة، وليس عنصر حل، ومن ثم وجب الحد من نفوذه وحصره في نطاق محدد، لكن تأبى الظروف والأحوال إلا أن تجعل من هذا العنصر الفاعل السياسي الأول في المملكة، وأحد ضمانات استقرارها، فالسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: هل الدولة المغربية عدلت من رؤيتها للإصلاح، وفي صلب هذا التعديل مراجعة الفرضية الأساس أن «الإسلام السياسي» عنصر أزمة، أم أنها لا زالت على رأيها الأول، وتنتظر الوقت المناسب للتخلص منه وإعادته إلى مربعه الأول؟. الكثير من المؤشرات تدل دلالة قاطعة على أن وجود الإسلاميين في «الحكم» لم يغير كثيرا من موقف الدولة منهم، وأن وجودهم في السلطة ليس وجود الشركاء في الإصلاح، بل لا زالت الكثير من دوائر الحكم النافذة والمؤثرة تستعملهم ولا تعمل معهم، وتنظر إليهم بارتياب، وتتحين الفرصة لإخراجهم من مقصورة القيادة. إن السياسة في المغرب منذ سنة 2011م هي محاولة وسعي حثيث لتحقيق رهانات الإصلاح التي أعلنتها الدولة في بداية العهد الجديد بأدوات غير تلك التي تم تصميمها في البداية، وفي أجواء مضطربة غير تلك التي كانت تهيئها، وقد ظهر هذا السير المعاق نحو الإصلاح في عدد من الأزمات السياسية التي عاشتها المملكة بعد 2011 كأزمة حكومة بن كيران الأولى؛ والهندسة الحكومية في عهد بن كيران؛ وأزمة التعليم مع البرنامج الاستعجالي؛ وأزمة التعيين في المناصب العليا؛ وأزمة صندوق التنمية القروية؛ وأزمة إصلاحات حكومة بن كيران؛ وأزمة الانتخابات التشريعية؛ وسلسلة من الأزمات الأخرى التي لا زالت مستمرة إلى اليوم.. إن هذه الحادثة التي تعرض لها النموذج التنموي استنادا إلى تقرير الخمسينية في العهد الجديد جعل من أهداف 2025 مستحيلة التحقق، بل الأسوأ من ذلك عزز عناصر الفشل والأزمة في البلاد، والتي تجلى بعضها في الأضرار التي لحقت بالتماسك الوطني، والابتعاد أكثر عن ممارسة ديموقراطية عادية وسليمة، وتفاقم الفقر، وعدم استقرار نسب النمو الاقتصادي، وضعف التنافسية.. السؤال -إذا- ما العمل؟ وإلى أين؟ إن الإسلاميين المغاربة وتحديدا حزب العدالة والتنمية إزاء هذا التوتر العميق والبنيوي في علاقته بالمشروع الإصلاحي للدولة مطالب بالثقة في الدولة بالقدر الذي يبحث هو -أيضا- عن ثقتها، ربما قد يكون هذا الأمر بديهيا بالنسبة لمكون مهم في قيادة هذا الحزب لكنه بالنسبة لعدد كبير من أعضاء هذا الحزب لا زال هذا الأمر بحاجة إلى جهد، حيث يتعامل الكثير منهم مع الدولة بارتياب، وينتقصون من مبادراتها..، ويبدو هذا الأمر بوضوح في ظهورهم في كثير من الأحيان بمظهر المعارض وهم في السلطة، وانخراط الكثير من المنتسبين لهم في الحركات الاحتجاجية الراديكالية، ونشاطهم السلبي في مواقع التواصل. فمبادرات الدولة أو اختياراتها السياسية الاستراتيجية في علاقتها بالإسلاميين ليست بالضرورة ترجمة لرغبات بل في كثير من الحالات هي تنزيل لإكراهات مرتبطة بقوى الداخل والخارج، ومن ثم والحالة هاته لا بد من قدر عال من التفهم والتواصل بين الطرفين، فقليل من الناس من يدرك أن وجود الإسلاميين في السلطة هو موضوع توتر جدي وحقيقي مع الغرب، وفي طليعته أمريكا، التي تعارض مشاركة الإسلاميين في السلطة ببلدانهم، ويشجعون الأنظمة على إقصائهم، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى أن بعض الأنظمة العربية المؤثرة لا تتردد في تقديم نفسها ك«عميل ممتاز» للغرب لتحقيق هذه الغاية. إن الملكية المغربية في هذا السياق، تعاني حرجا مزدوجا، الأول يتعلق بالصعود القوي للإسلاميين والحاجة إليهم للحفاظ على حد أدنى من الاستقرار والسكينة العامة؛ والثاني يتعلق بإرضاء الغرب وضمان مصالحه الذي يقتضي قمعهم، وتحاول الدولة إدارة علاقتها بالطرفين بنوع من التوازن، ومن ثم فالإسهام الإيجابي للإسلاميين في الإصلاح، وصدق وطنيتهم مرتبطة بالقدرة على إنتاج ممارسة سياسية متبصرة تأخذ بالاعتبار الحرج الذي تعانيه الدولة إقليميا ودوليا في العلاقة بهم، والتحلي بالثقة في الدولة والمؤسسات، وهو ما قد يجعل العلاقة بين الطرفين أكثر مصداقية ومتانة. ومن ناحية أخرى؛ على الدولة أن تبذل جهدا أكبر في التواصل الاستراتيجي مع الإسلاميين، وإشراكهم في همومها وإكراهاتها، وفي صلب هذا الجهد مراجعة فرضية - الانطلاق في العهد الجديد، والتي تفيد أن «الإسلام السياسي» في عمومه عنصر أزمة، ولا يمكنه أن يكون جزءا من الحل، ولا مكان له في المستقبل. إن تسريع وتيرة الإصلاحات بالمغرب وكسب رهاناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية مرتبط بجملة من الإجراءات الضرورية والعاجلة والشُجاعة، ومن جملتها: - إصلاح حزبي جذري؛ فالأحزاب الحالية في عمومها غير شعبية، وضعيفة الصلة بالتحت، وغير قادرة على القيام بأدوار الوساطة والتمثيل، فهل يكون ذلك من خلال تدخل الدولة أم بدونه؟ هل يكون ذلك من خلال التشجيع على ظهور كيانات حزبية جديدة أكثر شبابا وحيوية؟ هل نعول على سنن الطبيعة أم على الصناعة؟ - إدماج حقيقي للشباب في السياسة، والثقة في قدراته، وذلك بالرفع من حضوره في المؤسسات المنتخبة، وفي صلب هذه العملية السعي لإخراجه من ثقافة الاحتجاج إلى ثقافة العمل، وجعله أكثر إيمانا بقدرته على تقرير مصيره الذاتي ومصير أمته؛ - بث روح التفاؤل والأمل والإيجابية، ومحاربة خطابات اليأس والبؤس والسلبية في كل الوسائط. وإجمالا؛ إن مسألة النجاح في تنزيل سيناريو الأمل، وكسب رهانات المستقبل ليست مسألة اختيارية نملك إزاءها حق التقرير، بل هي فرض إجباري، فالمغرب لا حل له ولا خيار له سوى النجاح في تحقيق الغايات الاستراتيجية التي أعلنها في بداية العهد الجيد ودونها الخراب والانقسام والفوضى، ويعلمنا تاريخنا الطويل وإلى سنة 1912م أن الفتن ضيف ثقيل، لا ترحل عنا سوى بشدة وقسوة لا يمكن تخيلها، وأن الضغط غير المحسوب والمقدر على نظام الحكم لا يجلب الإصلاح بل يؤجله، ويوفر فرصا استثنائية لابتزاز النظام. إن الجميع اليوم مطالب باستفراغ الجهد في إنجاح كل مساعي الإصلاح، وبث روح الإيجابية والثقة في المستقبل، فالمشكلة الحقيقية التي يعاني منها بلدنا ليست مشكلة صراع بين فسدة ومصلحين، أو صراع بين ملائكة وشياطين، بل المشكلة أساسا بين ذوي النيات الحسنة الذين ساءت نياتهم في بعضهم البعض بسبب اختلاف مواقعهم في الدولة أو اختلاف قبائلهم الفكرية. *أستاذ باحث