كلما حل موسم من مواسم الامتحانات الإشهادية إلا وتعلن وزارة التربية الوطنية عن حالة استنكار في صفوف موظفيها، ومصالحها، ومؤسساتها، وموضوع هذا الاستنفار واحد لا يتغير، ولا يتبدل، هو《 محاربة الغش 》، حتى أضحى هذا المفهوم مفهوما شاردا، عصيا على الدفع، والمنع .. وأضحى شيطانا ماردا عصيا على الصفع، والصرع !! فما هو السر وراء ذلك يا ترى ؟؟ وهل من سبيل إلى دفعه، والمعافاة منه ؟؟ إن المتتبع لوسائل الإعلام المواكبة، والعامل في الميدان قبله لا يمكن إلا أن يشهد بأن وزارة التربية الوطنية لا تدخر جهدا على الأقل من الناحية الشكلية في التهييء للامتحانات الإشهادية؛ لكن هذا الجهد لا يزال على مسافات بعيدة من بناء مفهوم، وسلوك الاعتماد على النفس لدى القاصرين ( التلاميذ )، وتحويله عندهم إلى قيمة يتبنونها عن قناعة، وإيمان، واختيار؛ بل إن هذا الجهد لا يزال بعيدا عن أن يبني هذه القناعة لدى الراشدين الذين هم أطراف أساس في المنظومة التربوية ( الآباء - الأمهات - أولياء الأمور - الأساتذة - الإداريون من أسفل إلى أعلى هرم الوزارة... )، وذلك لأن فهم الآباء في معظمهم لعملية التعليم فهم مختزل في مخرجاته، المحصورة بدورها في الحصول على شهادة النجاح دون إتعاب أنفسهم بالسؤال عن المضمون، والاستحقاق، ولأن فهم الأطراف الأخرى مهما علا وسما، يظل في ظل المنافسة الداخلية والخارجية، والالتزامات الدولية مدفوعا بهاجس تلميع الصورة، وتنصيع الواجهة .. وبالعودة إلى جهود الوزارة في هذا الباب نجدها لا تقصر في تسليط الأضواء، ومراقبة مسار الامتحانات الإشهادية، مرورا بحملات التحسيس، والتعريف بالقوانين وبمراسيمها المتعلقة بزجر الغش، وتزويد المؤسسات " بكاميرات " للمراقبة، وحمل التلاميذ وأوليائهم على توقيع التزام في الموضوع، وإعداد لافتات وملصقات في شأنه، ومرورا باختيار المواضيع، وتوزيعها في أكياس سوداء قاتمة داخل أظرفة، داخل أكياس كبيرة محكمة الإغلاق بقفلين حديديين - وهي حجب بعضها فوق بعض؛ بحيث لو وضعت الشمس داخلها ربما لما تسرب بصيص واحد منها -، وتخصيص لجن مدعومة بآلات للرصد والكشف .. كما لا يبخل عموم المهتمين والملاحظين في تقديم اقتراحات إضافية من قبيل سحب الهواتف في باب مراكز الامتحانات، وتثبيت " الكاميرات " داخل الأقسام، واستعمال أجهزة التشويش على الاتصالات، وإعادة النظر في المناهج، والبرامج، والمقررات الدراسية، وتغيير نظام التقويم؛ بل ولم لا إلغاؤه بشكل كلي من مراحل العملية التربوية.. وإن كنت لا أقلل من قيمة بعض الإجراءات المتخذة، والاقتراحات المقدمة على الأقل في اللحظة الانتقالية إلى ما أدعو إليه؛ فإن الأمر بهذا الشكل يبدو لي متعلقا بتدبير أطوار حرب من حروب العصابات، والمليشيات، وليس باستحقاق تربوي بما تحمله كلمة التربية من معنى .. وإني أتساءل إزاء بعض هذه الإجراءات قائلا: - وهل سنحتاج بعد أجهزة الكشف عن الهواتف إلى معدات متطورة أكثر كتلك المستعملة في الكشف عن الألغام، وكسحها؛ إذا تطور وضع الغش أكثر، وتجاوز عين المراقب، وعدته، وعدسة " الكاميرا "، وإجراءات الوزارة ودقتها، وقتامة أكياسها، وصلابة أقفالها..؟؟ - وهل سنحتاج إلى كائنات غير آدمية توضع رهن إشارة الآدميين من مسؤولين، ومشرفين، ومراقبين لإجراء الامتحانات على غرار ( الكلاب البوليسية )، ومنحها صفة (الكلاب التربوية ) لتجوب الصفوف إلى جانب المراقبين الآدميين بقوة القانون، وتتحسس رائحة الجيوب، والملابس الخارجية، و الداخلية، وخشب الطاولات للكشف عن الغشاشين بدقة ونزاهة لا تعرفها إلى الكلاب الوفية..؟؟ - أم هل سنحتاج بعد ذلك إلى فرقة من التربويين الجويين، الذين يطيرون بالمواضيع إلى السماء السابعة، بعيدا عن أعين البشر، والذين يراقبون المراكز من الأعلى بحوامات خاصة..؟؟ - ثم إذا أعدنا النظر جذريا في المناهج، والبرامج، والمقررات، وصيغ التقويم - مع ما لذلك من أهمية - فهل يمكن إيجاد صيغة مصفحة، محصنة، لا يمكن اختراقها، والتجربة في كل المجالات تثبت أن فعل الاختراق ليس فعلا جامدا؛ بل هو أسبق من فعل التحصين؛ فالتلميذ الذي يبدع اليوم في خرق الأنظمة التقويمية القائمة هو الذي سيبدع غدا في خرق الأنظمة الجديدة مهما كانت مسيجة بكل السياجات، والضمانات، والخبرات المعرفية، والتربوية، والبيداغوجية، والديداكتيكية، والتقنية.؟؟ وأعود لأستأنف الكلام، فأقول: - إنه ( الغش ) ذلك المفهوم الشارد، والشيطان المارد، لم يولد في المدرسة، والمؤسسة التربوية يتيما دون أب، ولا أم، ولا سلف، ولا هوية .. إنه يخترق الماء، والهواء، والهباء .. فكلنا نذمه، ونسبه، ونرجمه بسبع حصوات؛ بل بوابل من الحجارة، وبالنعال، ولو كان مسموحا لفعلنا بالسهام، والنبال - تماما كما هو أمرنا في أداء المناسك بجهالة عمياء - لكن لفرط تقوانا، وتسامحنا، بل لعمق انفصام، وربما انفصال في شخصياتنا سرعان ما نتصالح معه، ونمارسه بأريحية .. يذمه الأبوان حينما يضربان على يد ابنهما، ويأخذان بأذن صغيرهما، ويزجرانه على غشه لأخته في قطعة من الحلوى، ويمارسانه حينما يريدان أن يحملاه على فعل أمر ما بالحيلة والكذب؛ حتى إذا انكشف الأمر حملاه على الطاعة قسرا، محتفظين لأنفسهم بعلوها، محتكرين رداء الفضيلة .. يذمه الفلاح حينما يتكلم عن الدعم الحكومي للفلاحين، ويمارسه حينما يجتهد في نفخ الكباش بشتى الأعلاف العفنة، والمحظورة ليضلل المشترين .. يذمه التاجر حينما يتكلم عن هزالة الأرباح والعدالة الضريبية، ويمارسه حينما يحتال على الزبائن في الجودة والثمن .. يذمه المقاول حينما يرافع من أجل الفوز بالصفقة، ويمارسه حينما يحرك أول حجر على ميدان المشروع المسلم له .. يذمه القاضي حينما يمثل أمامه رمز العدالة ( الميزان )، ويقرع ذهنه قوله تعالى: ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل )، ويمارسه حينما يضعف أمام إغراء، أو إكراه معين، فينطق بخلاف ما يجب أن ينطق به من أحكام.. يذمه رجل الأمن حينما يسهب في تذكير السائق بخطورة (حرق) الضوء الأحمر، ويمارسه حينما يضعف للتو أمام ورقة نقدية دسها السائق بين أوراق السياقة، ويجبن عن تذكير نفسه بخطورة خرق القانون .. يذمه موظف الإدارة العمومية حينما يثار موضوعه أمام من يشاركهم فناجين قهوة في أحد المقاهي، ويمارسه حينما يترك خلفه معطفه الأنيق على كرسي الإدارة ليوهم المسؤولين، والمرتفقين بحضوره، ويلقي بعد ذلك التهمة على دورة المياه ( المرحاض ) إن تم استفساره في الموضوع .. يذمه المسؤولون، والمهنيون، والموظفون المحلفون لحظة أداء القسم، ويمارسونه حينما يخلو كل منهم بنفسه، وبصلاحياته، وسلطته التقديرية التي لا يقتسمها معه أحد .. يمارسه مدراء المصالح، والأقسام، والمؤسسات حينما يجمعهم سوق من أسواق ( عكاظ )، ولقاء من اللقاءات الداخلية، ويمارسونه حينما يعودون إلى مكاتبهم المكيفة، ويتماطلون في أداء المهام المنوطة بهم، وحينما لا يكلفون أحيانا أنفسهم عناء سحب القلم، وتوقيع وثائق المرؤسين في آجالها المعقولة .. يذمه الباحث الأكاديمي المعتلي صهوة البحث حينما يضع ديباجة لبحثه، أو بالأحرى لما يزعم أنه بحثه، يعدد فيها مناقبه، وعوامل الجذب التي شدته إلى البحث وميزته بأصالة تفتقدها الكثير من البحوث، ويمارسه حينما يمتص دماء غيره، وينهش عظامه، ويختلس جهده، ويسرق عمله .. يذمه المفتش التربوي حينما يلقي خطبته المنبرية البتراء على السادة الأساتذة حول الأمانة، والرسالة التربوية، والمهنة، والمهنية، والمَهنَنَة .. ويمارسه حينما يخل بواجبه في التأطير والبحث العلمي والتربوي عن قرب وفي الميدان، وحينما لا يكلف نفسه مشقة الصعود إلى أقاصي الجبال، ويكتفي بتوقيع زيارات وهمية في المقاهي .. يذمه الأستاذ حينما يكون في لحظة ( جذبة ) صوفية، وهو يلقي درسا في أعالي البحار - أقصد أعالي الأخلاق- ويمارسه حينما يجتاز مباراة تأهيل، وحينما يكون على موعد مع مباراة ترقية، أو غيرها .. وقس على هذا ما شئت أن تقيس.. ففي هذا السياق، وفي هذه البيئة ينشأ، وينمو سلوك ( الغش ) مع الطفل ( التلميذ)؛ حيث يمكن أن يذمه هو أيضا، وأن ينعته بأشنع الأوصاف والنعوت، إذا كان في حصة من حصص الإنشاء، وفي لحظة من لحظات الانتشاء، ولكنه يمارسه ولا يستطيع أن يتخلص منه لحظة الامتحان؛ بل الأكثر من ذلك أنه بدعو إليه بما يستطيعه من إشارة أو عبارة مثل عبارة ( من نقل انتقل، ومن اعتمد على نفسه بقي في قسمه )، والتي تعود الفاعلون داخل المؤسسات التربوية قراءتها مكتوبة على السبورات، والجدران عند اقتراب كل موعد امتحان.. هذا التوجه المنحرف عند الطفل يجد سنده في أصوات الكثير من الآباء، والأمهات، والأولياء، وفي أصوات بعض الفاعلين المدنيين الذين يستكثرون إجراءات الوزارة؛ حيث يرونها عسكرة للمؤسسات التربوية، وإجراءات فيها من التعسف، والتشديد ما هو بعيد عن روح التربية، وغاياتها، ومراميها.. وبناء على ما سبق، وتأسيسا عليه؛ فإنه بالرغم من أنني لا أقلل كليا من قيمة وشأن بعض الإجراءات المتخذة، والملاحظات المقترحة كما سلف ذكره؛ إلا أنني أقرر جازما أنه مهما تم إحكام الطوق، ومهما تم تسديد، وتشديد الإجراءات التقنية، والرقابية؛ فإن نتائجها، وآثارها ستبقى محدودة، وليس الذي يسجل كل سنة من حالات الغش المعلن عنها دون ذكر التي تم تدبيرها، وربما التغاضي عنها داخل فضاء الامتحانات، وما عملية التسريب التي تمت في إحدى السنوات الأخيرة في مادة الرياضيات إلا دليل قاطع على ما أقوله، وأزعمه، وعليه فإني أدعو كل من يعنيه الأمر - وكلنا ذلك المعني - مؤسسات، وأفرادا، وإعلاما، ومجتمعا مدنيا، وأسرا .. كل من جهته، وفي حدود مسؤولياته أن يعمل على إحياء، ودعم ما يستطيع إليه سبيلا من قيمنا الدينية السمحاء، والحضارية، والثقافية، والإنسانية البناءة، ومن قيم المواطنة التي يستشعر من خلالها المواطن بصفة عامة، والطفل " التلميذ " بصفة خاصة انتماءه إلى وطنه، ويستشعر واجبه تجاهه، وحقه دون أن ينفك أحدهما عن الآخر، وذلك لإعادة صياغة الوعي الجماعي الصياغة الإيجابية المطلوبة، ولصياغة وعي التلميذ بالعملية التربوية - وعملية التقويم حلقة أساس من حلقاتها - الصياغة المناسبة، والمنشودة، وإعادة بناء علاقته بالدراسة لتتحول عنده إلى فعل متملك صادر عن الذات، وبرغبة منها، لا مفروضا عليها من الخارج. وإن نجاحنا إذا كان العزم وطيدا، والنهج سديدا لن يكون إلا ببناء صرح القيم المذكورة آنفا، وتمليكها للأجيال؛ لأنها هي الكفيل وحدها بإعفاء المجتمع برمته، والمجتمع المدرسي بصفة خاصة من كثرة، وكلفة الإجراءات التقنية، والخارجية، التي تبقى نتائجها مهما كانت نجاعتها محدودة في الزمان والمكان. *ممارس ومهتم بالتربية.