تقدم جريدة هسبريس لقرائها الأوفياء، داخل المغرب وخارجه، كتاب "عبد الكريم الخطابي، التاريخ المحاصر" لمؤلفه الدكتور علي الإدريسي، في حلقات، خلال شهر رمضان الكريم. هذا الكتاب، الذي تنشره هسبريس بترخيص من مؤلفه الدكتور علي الإدريسي منجما على حلقات، لقي ترحابا واسعا من قبل القراء المغاربة ولا يزال، إلى درجة أن الطبعتين الأولى والثانية نفدتا من المكتبات والأكشاك؛ بالنظر إلى شجاعة المؤلف في عرض الأحداث، وجرأته في تحليل الوقائع بنزاهة وموضوعية. الكتاب من أوله إلى آخره اعتمد الوثائق النادرة في التأريخ للزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي بأفق وطني يتسع لجميع المواطنين المغاربة، على عكس الطريقة التي "اعتاد عليها أولئك الذين حاولوا احتكار الوطنية وتأميم مستقبل المغرب، والتحكم في مصير أبنائه قرونا أخرى"، يضيف على الإدريسي في تقديم الكتاب. الحلقة 20 علاقة الخطابي مع الطبقة السياسية المغربية من المؤكد أن تجربة الخطابي في التحرر من قوى الاستعمار كانت نبراسا لعدد من الحركات التحررية، في الصين مثلا، وفي الفيتنام، وفي كوبا، وغيرها من الحركات. وقد سبق أن قرأنا شهادة علال الفاسي عن مكانة الخطابي لدى السوريين والعراقيين. وقلما حدث أن أنجزت دراسات وأبحاث تاريخية، كما ونوعا، دونما إشراف أو توجيه من أي جهة كانت، كتلك التي أنجزت عن وحول، الخطابي. ففي إحصاء أولي أنجزه الباحث مصطفى اللوه، تم رصد حوالي 2000 مؤلف وبحث ودراسة ومقال علمي، تناولت كلها مساهمة الرجل ورفاقه ، كمنطلق لتأسيس وعي جديد عند الشعوب المستعمَرة، استطاعت من خلاله أن تستعيد إيمانها بقدرتها على نفض الغبار الاستعماري ، والتمرد على نزعة الاستسلام لمجريات الأحداث، والتواكل والتقاعس عن عدم القيام بالواجب. وقد عبر الخطابي نفسه عن ذلك بقوله: «عدم الإحساس بالمسؤولية هو السبب في الفشل، فكل منا ينتظر أن يبدأ غيره.» .فكيف نظر إليه قياديو ما سمي بالعمل الوطني في المغرب؟ منهج عبد الكريم ومنهج أحزاب الحركات الوطنية السياسية في المقاومة إن الوعي بالمسؤولية التاريخية، المقرون بإدراك واقع الضعف الاجتماعي والاقتصادي الناجم عن الانسحاب منذ قرون من حركية التاريخ، يتطلب البحث عن أساليب جديدة لإعادة الاعتبار للذات ودحر القوى الاستعمارية؛ هذه القوى التي وظفت تفوقها الصناعي والتقني والعسكري والتنظيمي لغزو الشعوب الأقل تطورا لأسباب معروفة، لتنهب موادها الخام، وتستغل يدها العاملة الرخيصة، وتفتح أسواقها لمنتجاتها الصناعية؛ وكان لابد أن تكون تلك الوسيلة مخالفة للمناهج العسكرية الاستعمارية، نظرا لغياب الحد الأدنى من التناسب بين قوتي الفريقين في كل المناحي التي أشرنا إليها؛ ولم تكن تلك الوسيلة إلا ما اصطلح عليه لاحقا ب "حرب العصابات"، أو الحرب الثورية، التي تعتمد على القلة الفاعلة العارفة بتضاريس الأرض التي تجري فيها المعارك، وتجعل من المسالك الجبلية بحرها الذي تسبح فيه بمهارة لا يتقنها الغزاة، ومن منحنياتها الشديدة الوعورة طوق نجاتها الآمنة، التي توفر للوطنيين الفاعلية في العمل، وإحداث الخلخلة في صفوف العدو، وإلحاق الخسائر الموجعة به، على الرغم من تفوقه في العدد والعتاد. ولذلك تركزت جل الأبحاث والدراسات، المشار إليها، عن إنجازات الأمير الخطابي الحربية والإستراتيجية والمنهجية الجديدة في مقاومة الاستعمار وتحرير الأوطان. وقلما تعرضت تلك الدراسات إلى المرحلة اللاحقة، مرحلة القاهرة الممتدة من صيف سنة 1947 إلى تاريخ وفاته يوم 6 فبراير 1963، وبصفة أخص المرحلة التي كانت فيها القاهرة مركزا مهما للحركات الوطنية السياسية المغاربية (حركات المغرب والجزائر وتونس). فقد أسست هذه الحركات في بداية سنة 1947 "مكتب المغرب العربي"، قصد التعريف بقضايا شمال إفريقيا ونضالات شعوبه ضد الاحتلال الفرنسي والإسباني. وتعززت تلك النضالات بلجوء الأمير الخطابي إلى أرض مصر في 31 مايو 1947؛ حيث التفّ حوله زعماء تلك الحركات الذين شاركوا، كل بطريقته، في عملية " تحريره" من الأسر والنفي؛ فكيف تطورت علاقة هؤلاء به، وكيف كانت علاقته هو بهم؟ ثم لماذا صار اسمه غداة الاستقلال محرم التداول بين المغاربة بأمر من قادة حزب الاستقلال؟ وصار بالتالي كل من ظهر عليه شيء من التعاطف معه، أو وجدوا عنده مقالا من مقالاته، أو نداء من نداءاته الوطنية، إلى مصير مجهول؟ تأسيس مكتب المغرب العربي، من اليمين إلى اليسار: إدريس السلاوي، امحمد بنعبود، حسن التريكي، عبد الكريم غلاب، رشيد إدريس (في الوسط)، الفهري الفاسي، إبراهيم طوبال، عبد المجيد بنجلون، الشادلي المكي، عز الدين عزوز. ومن الملاحظ أن عملية التأسيس لم يحضرها أي زعيم سياسي قيادي. نحاول أن نوجز القصة من بدايتها. فمما لا شك فيه أن شخصية الخطابي ليست من النوع الذي يركن إلى الراحة ووطنه لا يزال مستعمرا، وليس من الصنف الذي يقنع بالعمل الإعلامي والسياسي كمنهجية للتحرر الوطني. ولذلك، وبمجرّد أن تعرف بدقة أكثر على أوضاع الأقطار المغاربية، بعد لجوئه إلى مصر، بادر إلى تأسيس "لجنة تحرير المغرب العربي" ب"مشاركة" و"مباركة" زعماء الحركات الوطنية، كما بادر، في الوقت نفسه، إلى إنشاء نواة جيش تحرير المغرب العربي لتفعيل ميثاق لجنة تحرير المغرب العربي، ولإيمانه الراسخ بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. وهنا وقع أول خلاف بينه وبين زعماء الأحزاب الذين اعتبروا أحزابهم «أحزابا شرعية دستورية» ترفض اللجوء إلى العمل المسلح. وتطلعنا الأحداث التي وقعت في الإبّان، والوثائق المتوافرة اليوم أن الوئام الذي ساد بين الخطابي والزعماء السياسيين في الشهور الأولى من استقراره في مصر لم يدم طويلا، خاصة مع جناح من الحركة الوطنية السياسية المغربية بزعامة علال الفاسي، وجناح بورقيبة في الحركة الوطنية التونسية؛ إذ سرعان ما تمت مقاطعة أشغال لجنة تحرير المغرب العربي من قبل هذين الجناحين. لقد ظهر ذلك، بداية، في غياب هذين الجناحين وعدم مشاركتهما في الإعداد للمقاومة المسلحة لتحرير أقطار الشمال الإفريقي التي كان يرى فيها الخطابي الخلاص الأكثر نجاعة من الاستعمار، والضامن الأساس لاسترجاع كل التراب الوطني، والخطوة الأكثر إيجابية نحو تحقيق الوحدة المغاربية التي تفككت منذ نهاية دولة الموحدين في القرن الثالث عشر. في حين كان الزعيم علال الفاسي يؤمن بالعمل السياسي السلمي، ولا يعطي للسلاح المقام الأول في العمل الوطني. ومن جانب آخر بقي الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة وفيا لخطته السياسية لتحرير بلده من الاستعمار الفرنسي، التي كان قد قدمها إلى المؤتمر الثاني للحزب الدستوري الجديد، سنة 1937، حين توجه إلى المؤتمرين قائلا: «إن الاستقلال لن يتحقق إلا بثلاث طرق؛ وتتمثل الأولى في ثورة شعبية عنيفة عارمة تقضي على الحماية، والثانية في هزيمة فرنسا في حربها ضد دولة أخرى؛ أما الثالثة فتنطوي على حل سلمي على مراحل بمساعدة فرنسا نفسها، وتحت إشرافها. إلا أن اختلال توازن القوى بين الشعبين التونسيوفرنسا يلغي أي حظ في انتصار شعبي، كما أن أي هزيمة عسكرية على يد دولة أخرى لن تساعد عملية الاستقلال، بل تسقطنا بين مخالب استعمار جديد؛ فلا مجال، إذن، للخلاص إلا بالطرق السلمية وتحت رعاية فرنسا.» من اليمين إلى اليسار: إبراهيم طوبال (تونس)، عمر سليمان (مصر)، علال الفاسي(المغرب) تطورَ الاختلاف حول منهجية التحرير الوطني بين عبد الكريم الخطابي وبين قادة حزب الاستقلال والحزب الدستوري الجديد إلى خلاف مستحكم، مما أدى في نهاية المطاف إلى قطيعة عدائية لخطط رئيسها، ولشخصه بالذات؛ الأمر الذي جعل اللجنة تتخذ قراراتها من قبل رئيسها الأمير الخطابي وشقيقه السي امحمد بصفته رئيسا للجنة الدفاع، مع حضور واضح للجناح الثوري في الحركة الوطنية الجزائرية. علل المؤرخ المغربي محمد زنيبر ما آل إليه الأمر بين الخطابي وقادة الحركات الوطنية السياسية في موضوع مسألة القيادة، فاستخلص أن هؤلاء الزعماء اعتبروا «عبد الكريم قيمة تاريخية وأسطورة يجب استغلالها، لكن أن يضعوا أنفسهم تحت إمرة عجوز يضطلع بالقيادة وتكون له الكلمة الأخيرة، فتلك مسألة لم تكن مطروحة؛ كان على عبد الكريم، في نظرهم، أن يقبل بدور صوري فخري، دور الشيخ الحكيم الذي يصغون إليه باحترام وإجلال، دون أن يكونوا ملزمين تجاهه بأي أمر. من جانبه لم يكن البطل الريفي يهدف للدخول في هذه اللعبة، فشخصيته القوية لم تكن لتتيح له القيام بهذا الدور؛ إنه كان يريد الاضطلاع كليا بمسؤولياته كزعيم قائد.» الواقع أن منطق استغلال " أسطورة "عبد الكريم بعيدا عن منهجه في التحرير الوطني كان حاضرا بقوة في خطط الزعيم علال الفاسي؛ فهو حين يقيم أهمية "تحرير" الأمير الخطابي من أسر المنفى الفرنسي يقر بأن ذلك كان من أجل «السماح لحركتنا بالاستفادة من مجده وتجربته وشهرته العالمية الكبرى» . ويشير الزعيم الحبيب بورقيبة إلى هذا المنطق الاستغلالي، حين أقر في شهادته التي أدلى بها لملتقى باريس لسنة 1973 حول عبد الكريم بأن «تطور العلاقة بينهم ( الزعماء) وبين عبد الكريم الخطابي يعود إلى مجابهة بين عصرين؛ فعبد الكريم كان يمثل عصر التحرك المباشر: عصر الحرب. أما الآخرون فكانوا من الوطنيين ممن أسسوا أحزابا شرعية دستورية الذين كانت لهم إستراتيجيتهم المختلفة؛ ولم يكن باستطاعتنا التفاهم، فالاستراتيجيات كانت مختلفة». وهذا يعني أن قادة هذه الأحزاب كانوا بحاجة إلى استغلال سمعة عبد الكريم في العالم، وليس إلى منهجيته التي رحلت إلى الفيتنام مع هوشي منه، وإلى الصين مع ماوتسي تونغ، وإلى أمريكا اللاتينية مع تشي جيفارا. وأهم مجال تم فيه استغلال سمعة عبد الكريم الخطابي هو الضغط على فرنسا بأن تتفاهم معهم هم، من أن تواجه الخطابي في الميدان مجددا. وقد أقلقت خطط الخطابي فعلا القيادة الفرنسية، وسببت لهم أرقا سياسيا كبيرا، كما تشير إلى ذلك مذكراتهم حول الأزمة المغربية. نعتقد أنه لم يكن هذا كل ما في الأمر؛ فقادة الحركة الوطنية السياسية لم يجعلوا حركة عبد الكريم الخطابي ومنجزاتها، ما بين 1921 و1926، مرجعا لأدبياتهم السياسية، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، خاصة «أن غالبية سكان المدن والمثقفين من البرجوازية الصغيرة من القادة لم يفكروا قط في الخروج عن طريق التحرك السلمي والشرعي»، على حد تعبير المؤرخ زنيبر. لكن هؤلاء القادة كانوا يتوجسون خيفة من قواعدهم النضالية التي كانت تميل إلى منهج الخطابي أكثر مما تثق في منهج الأحزاب الخاص بموضوع التحرر الوطني. هذا ما لمسناه في أحاديث قدماء القواعد النضالية للحركة الوطنية المغربية، خلال مشاركاتنا في الملتقيات التي كان ينظمها المجلس الوطني لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير. ومن جهة أخرى أثار غياب حركة الخطابي في خطاب الحركة الوطنية تساؤلا محيرا لدى المؤرخين المغاربة المعاصرين. فعبد الله العروي، بعد أن سجل إغفال قيادة الحركة الوطنية السياسية لمرحلة 1926 و 1947 التجربة الريفية، يتعجب كيف أن ما بقي من إنجازات تلك المرحلة الوطنية التي قادها الأمير الخطابي في ذاكرة جيل الحركة الوطنية يغلب عليه، بشكل حاسم، «العنصر العسكري والعاطفي أو الأسطوري، ويطغى على أي تحليل سياسي موضوعي، مفصل، يتناول نقاط القوة عند عبد الكريم ومكامن ضعفه»، إلى أن يقول: «إننا لا نجد عمليا في خلال الفترة التي سبقت 1947، أي قبل عودة عبد الكريم إلى المسرح السياسي، شيئا ذا شأن حول الأسطورة الريفية؛ وأن هذا الغياب شمل التيارين الوطنيين في المغرب.» من الصعب، إذن، استبعاد أثر تلك القطيعة، بين الحركة الوطنية المسلحة التي طغت عليها منهجية الخطابي، القائمة على الكفاح المسلح، وبين منهجية الحركة الوطنية السياسية بزعامة علال الفاسي، القائمة على "المقاومة" السلمية، على استقلال المغرب وعلى ما واجهته من مشكلات خطيرة، أهمها تلك المعاناة التي لا يزال المغاربة يعانونها في استكمال وحدتهم الترابية، جنوبا وشمالا، وبناء دولتهم الديمقراطية التي تكفل حقوق المواطنة والكرامة لكل المواطنين دون استثناء أو إقصاء. ولعل هذه المعاناة هي التي جعلت العروي يتمنى على المغاربة العمل على فهم رسائل وكلام الخطابي وعلال الفاسي والأخذ بهما معا، والعمل بهما وطنيا، قصد تجاوز كل ما من شانه أن يعزز التوجهات الفئوية أو الجهوية، التي وقع المغرب في فخها عشية الاستقلال، وأثرت سلبا على بناء الدولة الوطنية الحديثة. فالخطابي وعلال الفاسي، بالنسبة للعروي، «شخصيتان مرموقتان، وجهان عرفا العظمة، ولكنهما عرفا الفشل: الأول في ساحة المعركة، والثاني لاحقا، وبشكل قد يكون أكثر مأساويا، على طاولة المفاوضات. ولم ينهض المغرب من هذا الفشل المزدوج؛ أما نحن، نحن الذين علينا بناء هذا المغرب المهدوم...، طالما سمعنا رسالة علال الفاسي، أما آن لنا القيام بحل رموز الكلام المتقطع لعبد الكريم الريفي؟»