منذ أن تناسلت الأخبار حول حملة مقاطعة بعض السلع من لدن المستهلكين المغاربة والتحاليل تصب في الجانب السياسي لهذه المبادرة الفريدة من نوعها في تاريخ المغرب الحديث. لقد لوحظ تركيز جميع التحاليل على الدوافع المسببة لهذه الحملة ضد سلع بعينها والجهة الرسمية أو غير الرسمية التي أطلقت الشرارة الأولى لهذا الهجوم غير المسبوق على الرأسمال الاقتصادي، الذي ما فتئ يستغل الفرص تلو الأخرى لمراكمة الأرباح في قطاعات حيوية كانت بالأمس القريب محمية من لدن الدولة عن طريق صندوق المقاصة. وكان قرار تراجع الدولة عن المساهمة في تحمل قسط غير يسير لأثمنة بعض السلع ذات الأولوية بالنسبة إلى المستهلك المغربي قد أسال المداد حول الأهداف الإستراتيجية والرابح الكبير من هذه الخرجة غير محسوبة العواقب بالنسبة إلى شريحة واسعة من المواطنين المغاربة. بالفعل، لقد لقي هذا القرار استياء وتذمرا من فعاليات المجتمع المدني وهيئات سياسية ونقابية ذات التوجه الاجتماعي والحقوقي بالمغرب؛ غير أن المواطن المغربي البسيط أحس بأنه عاجز عن الدفاع عن مصالح مجموعة من فئات المجتمع التي وجدت نفسها في وضع لا تحسد عليه، إذ إلى جانب تفشي البطالة والعطالة في صفوف الشباب حاملي الشهادات وتراجع القدرة الشرائية جراء ارتفاع غير مبرر لأسعار العديد من السلع الأساسية اضطر للبحث عن حلول بديلة تجعل السلطات المتحكمة في الاقتصاد والسياسة بالاعتراف بحق المواطنين في الحياة الكريمة والاستفادة من خيرات الوطن. وبتبلور الموقف النهائي للمواطن المغربي عن طريق الشبكة العنكبوتية بتبني مقاطعة ثلاث سلع لثلاث من الشركات التي تستحوذ على الحصة المهمة في السوق ظهر للعيان أن هذه المبادرة فعالة في إجبار ودفع هذه المؤسسات الاقتصادية للانتباه إلى الوضع غير المفهوم للأسعار المتبعة. تجدر الإشارة إلى أن أغلب التحاليل والنقاشات انصبت على البعد السياسي لهذه الحملة ومن المستفيد ومن الخاسر من هذه العملية، إلا أننا نظن بأن المقاربة الاقتصادية والتدبيرية أهم بكثير من المقاربة السياسية للحملة. الدليل على ذلك هو أنه، إلى حد كتابة هذه السطور، لم نستطع تحديد من وراء هذه الحملة ولأية أهداف واضحة، بالإضافة إلى الضبابية التي تميز الحقل السياسي؛ وذلك راجع إلى ما واكب مسلسل تشكيل الحكومة الحالية والتساؤلات الشرعية حول أداء هذه الحكومة برئاسة السيد سعد الدين العثماني، زد على ذلك غياب التنسيق الكافي والفعالية في أداء المعارضة البرلمانية. كل ذلك يفضي في نظرنا إلى وجوب البحث عن زاوية أخرى أكثر وضوحا وموضوعية لتناول هذا الموضوع. من جهة ثانية، نعتقد أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي بالمغرب يستوجب التركيز على الحلول أكثر وليس التسابق في التراشق حول المسؤولية المباشرة وغير المباشرة لهذه الحالة المعقدة التي يوجد عليها الاقتصاد المغربي. فإذا كان تصرف المستهلك المغربي مفهوما وواضحا، حيث إن المواد المعنية بالمقاطعة تعرف وضعا مريحا في التحديد الحر للأسعار؛ وذلك راجع إلى خصوصيات ونوعية هذه الأسواق. بالنسبة إلى سوق المحروقات فمنذ القرار غير الاجتماعي الذي اتخذته حكومة السيد عبد الإلاه بنكيران والقاضي بالتخلي نهائيا عن دعم هذه المواد استغلت المؤسسات العاملة في هذا القطاع ومحدودة العدد الوضع جيدا وذلك بشبه اتفاق بينها بتحديد سعر مريح مكنها من تحقيق أرباح جد مهمة بالمقارنة لمنحى الأسعار الدولية التي عرفت تراجعا مهولا. منذ ذلك الحين والمواطنون يتساءلون عن جدوى اتخاذ هذه الخطوة غير الشعبية، حيث يتحكم العرض في الطلب؛ وهو ما يجعل الأسعار جد مرتفعة. بوجود عدد محدود للمؤسسات التي تعرض منتوجاتها في سوق المحروقات وبالاتفاق المبطن بينها على السعر النهائي المطبق على المستهلكين المغاربة في ظل تجميد دور مؤسسة لا سامير ودور مجلس المنافسة فنحن أمام وضع يستدعي التدخل السريع والفعال لتفعيل دور المنافسة في تحديد سعر معقول وجودة مقبولة من لدن المستهلكين. وكان لهذه الوضعية أثر سلبي على القدرة الشرائية والضغط أكثر على جيوب المواطنين الذين اكتووا بزيادات متتالية وغير مفهومة. كان لزاما أن ننتظر رد فعل قويا وسريعا وغير محسوب العواقب للمستهلكين المغاربة في أية لحظة. في ظل غياب نظرة استباقية في إطار ما يصطلح عليه بالذكاء الاقتصادي أو المراقبة الإستراتيجية ظل مسؤولو هذه الشركات يظنون أن السوق متحكم فيها وأن المواطنين سيستمرون في نهج نفس السلوك الاستهلاكي، حيث غياب مؤسسات الوساطة من نقابات وجمعيات حماية المستهلكين. في السياق نفسه لوحظ بعد نجاح مسلسل المقاطعة غياب سياسة تدبير الأزمات داخل هذه الشركات، إذ منذ الوهلة الأولى كان تدخل بعض الأطر المحسوبة على هذه الشركات عوض التفكير والمساهمة في إيجاد الحلول الممكنة والواقعية للأزمة عمدوا إلى اتخاذ مواقف أكثر تشددا وأصبح مستعصيا سلوك منهج التواصل المهني الفعال لحلحلة المشكل العويص. من جانب آخر، عوض البحث عن حلول تدبيرية للأزمة ظل مسؤولو هذه الشركات حبيسي البعد السياسي للأزمة وحرموا هذه المؤسسات من الذكاء الجماعي المعتمد على الابتكار وإيجاد تنظيم إنتاجي يتماشى مع الوضع الراهن. أما قطاع الحليب فمعروف أن الإنتاج الوطني ضعيف مقارنة مع الطلب الذي يتزايد بشكل مطرد سنة بعد سنة. وبالرغم من كل ما جاد به مخطط المغرب الأخضر للرفع من الإنتاجية والإنتاج فإن الوضع ظل مقلقا، بسبب عدم التوازن بين العرض والطلب. ومع ظهور مجموعة من التعاونيات الجهوية والمحلية التي أسهمت في إدماج الفلاحين الصغار غير المهيكلين في منظومة الإنتاج لهذه المادة الحيوية، أصبح المستهلك المغربي يتوخى شراء الحليب بسعر في متناول العديد من المواطنين؛ إلا أنه صدم بواقع مر، حيث يعتبر الحليب بالمغرب من أغلى ما يكون على الصعيد العالمي. ومع تزايد الطلب وتغير نمط الاستهلاك، أصبحت المؤسسات تراهن أكثر على تطوير نوعية العرض؛ وذلك بالتركيز على مشتقات الحليب نظرا لما تحققه من هوامش ربح مهمة. هنا لا بد من الإشارة إلى أن غياب الذكاء الاقتصادي والمراقبة الإستراتيجية بالإضافة إلى تعطيل سياسة تدبير الأزمات لم تفلح المؤسسات العاملة في هذا القطاع بتفعيل حلول تدبيرية وتسويقية بإمكانها تجاوز الوضع الراهن. أما قطاع المياه المعدنية والطبيعية فوضعه خاص، إذ إلى وقت قريب كان هذا المنتوج موجها بالدرجة الأولى إلى المرضى والرياضيين بالإضافة إلى الميسورين من المغاربة، وفي بعض الأحيان أثناء السفر. يمكن القول إن المياه المعدنية والطبيعية اعتبرت على الدوام من المنتوجات الفاخرة. وظل السعر مرتفعا، حيث إن المستهلك المعني غير مهتم بمستوى الثمن. ومع تطور الآلة الإنتاجية لهذه الشركات وذلك بعرض مياه المائدة بدأت شريحة واسعة من المواطنين تستهلك هذه المادة كما وكيفا؛ وهو ما شجع على إدراج مجموعة من الماركات المغربية والخارجية في الأسواق. إن انفتاح المواطن المغربي على ما يحدث ويقع بالعالم الذي أصبح قرية صغيرة بتزايد استعمال تكنولوجيا الإعلام والتواصل جعله يكتشف أن الماء يباع عبر ربوع العالم بأثمنة مناسبة. كان من البدهي أن يضم المقاطعون هذا المنتوج إلى لائحة السلع التي شملتها حملة الممانعة لنفس السبب ألا وهو غلاؤها مقارنة بالأسواق الدولية. مما زاد من الأزمة كون المياه المعدنية والطبيعية متوفرة في جوف الأراضي المغربية بوفرة، وهذا دفع العديد من المستهلكين يتساءلون: كيف لمنتوج هو أصلا من ملكية المغاربة يباع بأثمنة باهظة بمجرد تعليبه وإيصاله إلى المستهلك المباشر؟ إن الارتفاع السريع والمتتالي لرقم المعاملات ومعه الأرباح الصافية في هذا القطاع جعل المسؤولين يتجاهلون ويتناسون أن القدرة الشرائية للمغاربة تظل محدودة، بالرغم من عزمهم على مسايرة نمط استهلاك مغاير، وهذا يدفعنا إلى ترديد الملاحظة نفسها؛ ألا وهي غياب ذكاء اقتصادي ومراقبة إستراتيجية بالإضافة إلى خلو المؤسسات المعنية من منظومة فاعلة وفعالة لتدبير الأزمات. بغض النظر عن عملية تسييس المقاطعة الاقتصادية كأسلوب جديد للضغط على الأغيار والذي أصبح سلاحا مدمرا للاقتصاد المغربي، نظن أن الحكمة تقتضي التركيز على الحلول الاقتصادية؛ للاعتبارات التالية: 1- إذا كان من حق أي مستهلك أن يمانع من شراء أي مادة يعتبر سعرها مرتفعا بالنظر إلى مستوى دخله وقدرته الشرائية، فإن المؤسسات الاقتصادية مطالبة بإيجاد حلول عملية بعيدا عن منطق العناد الذي لا يجدي نفعا من الناحية الاقتصادية؛ 2- إن الخاسر الأكبر من الأزمة الحالية هو الاقتصاد المغربي، حيث نخسر يوميا نقطا مهمة من الناتج المحلي ونسوق لمناخ أعمال غير جذاب ومجدي لطمأنة المستثمرين الحاليين واستقطاب المزيد؛ 3- إن تراجع الإنتاج بالمؤسسات المعنية بالمقاطعة، بالرغم من انتعاش المؤشرات الاقتصادية لدى المنافسين المباشرين ستكون له عواقب وخيمة على مداخيل العديد من الأجراء وبالتالي على الأسر المغربية؛ 4- إن المصلحة العليا للمغرب تقتضي الأخذ بعين الاعتبار كل المتدخلين في العملية الإنتاجية والتوزيعية والاستهلاكية لتطوير أداء الاقتصاد الوطني. من حق المقاولات تحقيق ربح مناسب ودائم عوض التركيز على هوامش ربح سريعة ومهمة لمدة محددة. وعليه، من الضروري مراجعة سلم تحديد الأسعار تفاديا لما هو أسوء في الوقت نفسه يتعين إعادة النظر في بنية التكاليف، بالإضافة إلى عملية هندسة الإنتاج؛ حتى يتسنى لها الاقتصاد في التكاليف وضمان جودة مناسبة؛ 5- إن نجاح المقاطعة بالنسبة إلى المستهلك المغربي والتي تخص سلعا دون أخرى لا يعني بتاتا تحسين قدرته الشرائية، حيث الرابح الآن على المدى القصير هي المقاولات المنافسة والتي أنعشت خزائنها. لذلك على المستهلك أن يرمي بثقله للدفع في اتجاه تحسين القدرة الشرائية ليس فقط بالمقاطعة؛ ولكن أيضا باختيار سلوك استهلاكي مثالي وعقلاني. بالواضح على المستهلك المغربي مراجعة طريقة ونمط استهلاكه وذلك: أولا، باعتماد سلم أولويات، حيث يمكن الاستغناء على بعض المنتوجات التي تحدث ثقلا مهما في ميزانيته؛ ثانيا، باعتبار الانتصار على الذات هو التحدي الأكبر عوض الاكتفاء بإنجاح المقاطعة التي ليست هدفا في حد ذاته؛ ثالثا، بالتخلي عن شخصنة الإشكالية والابتعاد عن التحاليل البسيطة التي تصب في شيطنة أشخاص بعينها كما لو أن المشكل يكمن في الإطاحة بهم. إن المشكل الحقيقي في الاقتصاد المغربي يكمن بالأساس في منظومة غير مجدية، إذ المستفيدون الحقيقيون من الوضع الراهن هم المضاربون والوسطاء في الأسواق. لذلك يتعين على الحكومة تنظيم الأسواق بشكل يحد بل يمنع من الاغتناء السريع وغير النافع. إن المضاربة والوساطة الاقتصادية كما هي الآن بالمغرب لا تضيف للاقتصاد الوطني قيما من شأنها الرفع من الناتج الوطني المغربي وبالتالي المساهمة الإيجابية في التنمية الاقتصادية. بالعكس فهي تضر بالاقتصاد الوطني، لتركيزها على أرباح آنية دون الاستثمار في المستقبل، إذ لا تتوفر على مؤسسات منظمة تسهم في خلق الثروة ومناصب للشغل لجيش من حاملي الشواهد العليا. معلوم أن المواد الأولية متوفرة كما وكيفا، وبأثمان في متناول الوسطاء والمضربين؛ غير أن المستهلك النهائي لا يستفيد منها مباشرة بل حكم عليه الاكتواء بسعر مشتعل في الوقت الذي يحقق المضاربون والوسطاء أرباحا خيالية. *أستاذ باحث بجامعة القاضي عياض/ مراكش.