كباحثين سوسيولوجين، لا نرى رمضان كطقس ديني محض، وإنما بمثابة مختبر في غاية الأهمية لقياس "الحس الديني" لدى المسلمين، مؤمنين أو غير مؤمنين، هذا المختبر الذي تنبعث منه رائحة وبخار التفاعلات بين مكونات المجتمع، في معادلة تفاعل المقدس والمدنس، ومن نواتج هذه المعادلة مسألة الافطار مقابل الصيام، لأن الصوم في هذا البلد ليس فقط طقسا من الطقوس الدينية، إنه أمر مؤسستي ومجتمعي ينبغي أن ينفذه الجميع، وحتى السياح الأجانب الذين نفترض أنهم غير مسلمين -والغريب أن السياح المغاربة يشهرون صيامهم أكثر من المغاربة أنفسهم-، ونحن نفهم هذا السلوك المستمد من كتاب دليل السياح الذي يفرض عليهم احترام عادة وتقاليد المغاربة. قد لا نكون متسرعين إذا قلنا بأن الصوم عندنا مجرد عادة، أي صوم شهر كل سنة بدون اعتقاد راسخ؛ بمعنى أنه واجب ديني، لكن هذا الواجب من المنظور الديني يستثني غير المسلمين، بل وأكثر من ذلك يستثني من كان على سفر ومن كان مريضا والمرأة في الحيض...، هذه الاستثناءات موجودة في الدين فقط، وللدولة وبعض افراد المجتمع، الذين أسميهم شخصيا "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو حراس الدين والعقيدة" رأي آخر، هذه "الهيئة" التي لا تعاقب من كان مسؤولا عن تجويع الفقراء طيلة السنة، وإنما تعاقب فقط من يتجرأ أو يعتقد بأن الصوم عقيدة وليس أمرا. هناك يصبح للدين معنى ثانوي؛ اي تنميط السلوك الاجتماعي وفق التمييز بين ما يمكن فعله وما لا يمكن فعله، كما يفقد الدين مع هذه الممارسة دلالته الروحية والمتمثلة في العقيدة، والعقيدة إيمان، أما أن يفرض المرء العقيدة والإيمان بقوة القانون في دولة "الحق والقانون" لم يخطر على بال الأحرار، كما هو الشأن في المادة 222 من القانون الجنائي المغربي. هذا يعني إذا ولدت في المغرب فإنه يفرض عليك شرعا وقانونا أن تكون مسلما، وما يسمى بالحرية الفردية تشكل مسألة خطيرة تزحزح عقيدة المسلم. يبدو أن المسلم المغربي يعجز على تحصين نفسه لذلك تحصنه "الدولة" قانونيا، و"الدولة المغربية" لازالت لم تستوعب بعد أن المواطنة أعظم وأعم واسمى من العقيدة، فلماذا لا ثقافة تعلو على ثقافة الدين في بلدنا الحزين؟. نحن نعلم أن شهر رمضان يدخل ضمن قدسية المسلم المؤمن، وبالتالي مادام الأمر يتعلق بعقيدة، فمن حق المسلم المؤمن أن يتمتع بحريته في ممارسة عقيدته، كما من حق اللاديني أو الملحد أو الذي يعتقد بديانة أخرى كالمسيحية أو اليهودية أن يمارس اعتقاده بحرية مماثلة لحرية المسلم. هذا الصراع بين المقدس والمدنس تحاول أبواق ومشايخ السلطان أن يسوقه على صورة صراع بين التقليدين والحداثيين، بين المتدينين والعلمانيين، هذا التسويق السيء للصراع المفتعل، يأخذ شكل تحريض الشعب على الشعب بالشعب. الى جانب حديثنا عن الاعتراف بحق من يريد أن يصوم أو لا يصوم عن الأكل في رمضان، يطفح الى السطح نقاش شكل ملابس النساء، لأن الصائم المسلم يظن أن اللباس العصري للمرأة يشكل خطر على صومه، أو بلغة دينية يبطل صيامه، وهنا تحضرني قولة السوسيولوجية فاطمة المرنيسي: "جمال المرأة فتنة يؤدي الى فوضى"، لكن لابد أن نتساءل أمام هذه الفوضى الناتجة عن زحزحة عقيدة المسلم المغربي الصائم، هل هناك معيار لقياس "درجة الحشومية" في لباس المرأة؟ وما يزيد من غرابة هذا التناقض أنه في زمن تدعي فيه "الدولة المغربية" ما تسميه "هيكلة الحقل الديني" علما أن زمن السبعينات الذي لم يشهد أبدا ما نسميه اليوم "هيكلة الحقل الديني"، لم يكن الصيام سوى شأنا شخصيا، كما كانت ملابس المرأة شأنا شخصيا، أي أن مسلمين ذاك العصر كانوا مسالمين، عكس مسلمين اليوم الذين أصبحوا مسلمين مفترسين... ولا عجب في هذا، إنهم مسلموا الرأسمالية الليبرالية الاسلامية المتوحشة، هؤلاء يعيشونا تناقضا صارخا في هويتهم وقناعتهم، بحيث أنهم مدمنون على ولوج المواقع الاباحية/البورنو، ولكن في نفس الوقت "يستغفرون الله"، ويعمقون النظر في أفخاذ وصدور بعض النساء ويقولون: "ما شاء الله" ، و"استغفر الله". نكمل طريقنا في رصد سلوكات المغاربة في رمضان، ونقيس من جديد نبضات العنف والغضب، وألوان وروائح المجتمع، هذه الروائح التي تلوث شمي وسمعي وبصري كل مساء منذ أول يوم من رمضان، وفي الغالب يأخذ هذا العنف شكل لفظي، بمعنى أن عنف رمضان عبارة عن معركة كلامية حامية الوطيس تنبعث منها رائحة "واد الحار"، هذه المشاهد أضحت مألوفة، وأطلقنا عليها اسم يليق بها "الترمضينة"، في الواقع مشاهد العنف هي ظاهرة تمثل جزءا من حياتنا اليومية، سواء خلال شهر رمضان أو خارجه، فقط مع الصيام تتخذ بعدا أكثر حدة من الأيام العادية. وفي أوج تطور الخصام تجد المتخاصمين يتدافعان أو يتشابكان بأيدهم مصورين مشهدا دراميا هزيلا، هذه المشاهد الدرامية تعودنا عليها في حياتنا اليومية على مدار السنة في حينا الشعبي. فقط في شهر رمضان يبدو أن مشاهد العنف تقلقنا أكثر، لأننا لاشعوريا، نربط هذا الشهر بأخلاقيات معينة، وهي أخلاقيات في الحقيقة نفتقدها أصلا، هذه المعارك لا تتوقف إلا مع آذان المغرب؛ أي موعد الإفطار. بعد الافطار يبدأ مسلسل الحركة، التي تكاد تكون متوقفة في النهار، وتوقف الحركة يعني لا معنى للوقت هنا، اي لا معنى للإنتاج ما دمنا نتخصص في الاستهلاك في هذا الشهر المقدس بحكم قانون الدولة، وبحكم قناعة غالبية المجتمع. المهم الرجال هم من يبدؤوا بالحركة، فتمتلئ بهم الشوارع تدريجيا، أغلب هؤلاء الرجال يتأبطنا سجادتهم على أكتافهم متوجهين لأداء صلاة "التراويح"، للأسف هذه التراويح لا تطهر من أرواحنا شيئا، نصلي كأننا لا نصلي، نبكي في حضرة أئمتنا بالملايين، ولا نشارك في بناء مجتمع الحرية والعدالة والرفاهية الاجتماعية لنصنع الابتسامة ونعيدها للملايين، وكأننا نطبق وصية نيتشه الذي كان يقول عن سقراط: " ذاك الذي علمنا كيف نموت عوض أن يعلمنا كيف نحيى" فعلا شيوخنا يعلمونا كيف نموت، وكيف نستعد لعذاب القبر وهول القيامة..ز، ولم يعلمونا الحياة والحب والسلام، ونسوا المساكين أن الحب صلاة، العمل صلاة، وتقاسم الخيرات صلاة، والعلم صلاة...، وبعد التراويح يقصدوا الرجال مكانهم السحري /المقهى، ويصطفون بانتظام رائع، ينظرون كلهم في اتجاه واحد، كما لو أن شاشة كبيرة نصبت أمامهم، يجلسون جماعات، قد يكونون اصدقاء أو افراد نفس العائلة، لكن العجيب كل يتصرف كما لو كان وحيدا، يبتسم مع شاشة هاتفه التي تضيء وجهه، يشغلون هواتفهم الذكية بدل عقولهم الغبية، فعقولهم مضادة للاشتغال. لا مكان في مقاهينا الشعبية للنوع، لا مكان للكوطا، الفضاء رجالي بإمتياز، أين المرأة إذن؟. النساء في المنازل مشدوهات الى التلفزيون، وعندما تتسمر النساء أمام المسلسلات في رمضان تستفيد كثيرا، تستفيد من تقنيات استدراج الرجال وإغرائهن، كما تتعلم الجديد في تسريحات الشعر...، أظن أنه لازال أمامنا سنوات ضوئية كثيرة ليتساكن فينا الانسان/الذكر، مع الانسان/الأنثى، كمواطنين حداثيين منتجين. بالإضافة الى ما هو مشهور عند العموم، أن شهر رمضان هو شهر الاستهلاك بإمتياز، لكن نستهلك ماذا؟؛ نستهلك القليل من منتوجاتنا والكثير من السلع المستوردة، نستهلك الثمور الممزوجة بدماء أطفال غزة المهربة بصفة مباشرة أو غير مباشرة من اسرائيل. الى جانب الاستهلاك نجد الكسل والخمول الذي يميز المغاربة بدل الجهد والعمل، ولهذا يدخل المغاربة في عطلة خاصة في رمضان؛ الادارات العمومية تتعطل، فأحسن الادارات خدمة للمواطنين تستقبلهم قبل الزوال بساعة، وتستمر في عملها بعد الزوال بساعة، اي يصبح عدد ساعات الموظف العمومي في رمضان في نسخته المغربية ساعتين أو ثلاث على الأكثر، هؤلاء الموظفين لا يعرفون أن الصيام في الأصل ممارسة لتهذيب النفس وتطهيرها، وهذا لا يتناقض مع العمل الذي هو أيضا رياضة لتهذيب النفس وتطهيرها. قبل الختام نشير أن التسول يكاد ينقطع في رمضان، هل هذا نتيجة قفة رمضان التي تتصدق بها جمعيات رئيس الحكومة "الخيرية" المتعددة الأسماء على المتسولين، أم المتسولين كباقي الصائمين يمسهم الكسل، أم أن المتسولين يخصصون هذا الشهر لقضاء عطلتهم السنوية؟ وأخيرا، لابد أن نشير أن هذه الملاحظات التي رصدتها في هذا المقال قد تكون مجحفة للبعض، وهذه طبيعة الملاحظات السوسيولوجية التي غالبا ما تكون مجحفة، كما أن هذا المقال مجرد مساهمة بسيطة لكشف التناقضات الجديدة للمجتمع المغربي. وعلينا أن نتسلح جميعا في كشف واقع مغربي يغترب أكثر.