هذه الحلقات الرمضانية عبارة عن تأملات وقراءة أولية لبعض جوانب حراك الريف، وهي مستوحاة من نبض وزخم الحراك، الذي حظيت بفرصة ملاحظة وتتبع بعض لحظاته والإصغاء الهادئ إلى إيقاعات هزاته وارتداداتها، ونقل شهادات حية من قلب الريف لشباب شاركوا أو تعاطفوا مع الحراك. نحن نحب الحياة قوة حراك الريف تكمن في قاعدته الشبابية، وتوهج روحه التعبوية كان في تنوعه وامتلاكه قدرة تلقائية مدهشة على إدماج واستيعاب (Inclusion) مختلف فئات الشباب بخلفيات مهنية وعمرية وإيديولوجية متباينة. ونجح الحراك في إشراك وصهر أطياف وديناميات متعددة وذات مرجعيات وهويات مختلفة في بوتقة واحدة، وأسهم غياب بؤرة إيديولوجية ناظمة للحراك وانتفاء أية هيكلية تنظيمية هرمية صارمة في تفنن شباب الحراك في أشكال الحضور في المجال العام والفضاء الرقمي. بصدقهم وعفويتهم وإيمانهم العميق بعدالة مطالبهم البسيطة تمكنوا من كسب ثقة واحترام معظم ساكنة الريف، رجالا ونساء، أطفالا ومسنين، وحدث تكامل وتوافق شبه جماعي للأجيال حول مشروعية المسيرات الاحتجاجية. لهذا عرف الحراك دينامية تعبوية تلقائية متدرجة؛ فبعد أن كان مقصورا على الشباب العاطلين والطلبة والتلاميذ من ذوي التوجه اليساري ونشطاء الحركة الأمازيغية، تحول شيئا فشيئا إلى حراك شعبي، وذلك حين ارتفع منسوب الوعي الجماعي العام فانخرطت فيه مختلف الفئات العمرية وشارك فيه العاطلون، التجار، الحرفيون، العمال المياومون، البحارة، الأساتذة، المحامون، الأطباء والموظفون وبعض أئمة المساجد وبعض المثقفين... وكانت المسيرة التاريخية الحاشدة بمدينة الحسيمة في الذكرى الأربعينية للشهيد محسن فكري البداية الحقيقة لهذا التحول؛ بحيث تجاوز الزخم الجماهيري للحراك كل التنظيمات التي كانت تسعى إلى تأطيره أو احتوائه. تمكن الحراك من تحقيق تعبئة عابرة للأجيال (Mobilisation Trans-générationnelle)، وحدث تكامل وتوافق شبه جماعي للأجيال حول مشروعية المسيرات الاحتجاجية، واندمج فيه الأبناء والآباء والأجداد، وحضرت داخله مختلف الفئات العمرية من فتيان وشباب وكهول وشيوخ، وحتى الأطفال في مختلف المدارس حفظوا عن ظهر قلب شعارات الحراك وكانوا يرددونها بتلقائية مدهشة. لكن جيل الشباب يشكل القاعدة التعبوية الرئيسية للحراك، وهم يطالبون بأن تمنح لهم الدولة ما يجعلهم يشعرون بالأمل أمام ضيق الآفاق أمامهم. وتوخى نشطاء الحراك من تنظيم مسيرة احتجاجية حاشدة تحت شعار "الأكفان من أجل الحياة"، في 9 أبريل 2017 بمدينة الحسيمة، إيصال رسالة واضحة مفادها "نحن نحب الحياة، ونحن متشبثون بمطالبنا، وسنضحي من أجلها"، وقد انتشر بقوة شعار "نحن شعب يحب الحياة" وشعار "نحن لم نمت كما تعتقدون"، (عَاذْ وَنَمُوثْ أَمُوخْ ثَنْوِيمْ كَنيِيوْ). يقول "س. م": "نريد العناية والاهتمام بنا، هذا كل ما نحتاج إليه، نحن نريد أن نعيش، ونحن نحب الحياة". وأسهم الحراك في تشريب الشباب ثقافة جديدة تستشرف معاني نبيلة هي أبعد من الالتصاق بالمعنى الضيق والمبتذل للسياسة، إنه حب الحياة الذي منحهم أملا في الحلم بغد أفضل، والحياة لا تستحق أن تعاش إلا بمقدار ما تضفي عليها من محبة ومعنى وآمال. وهذا ما يذكرنا بأغنية للفرقة الغنائية الشهيرة "الخنافس" (Beatles) "كل ما تحتاج إليه هو الحب" (All you need is love)، التي تحولت إلى إحدى شعارات حراك الشباب بأوروبا عام 1968. مع الحراك انتشرت بشكل عجيب قيم التضامن والتآزر والمحبة والاحترام المتبادل بين أهالي الريف، وساهم ناصر الزفزافي في إحياء قاموس لغوي جديد بين شباب المنطقة، من قبيل أن العبارة الأكثر استخداما بالمنطقة بين الناس لتوديع بعضهم البعض هي: "ليحفظكم الله"، "أَشْكُمْ إِحْفَظْ رَبِي"، "ليحفظكم الله تعالى"، "أَشْكُمْ إحْفَظْ الله تعالى" أخذت مع الحراك أبعادا التحامية أقوى بين الشباب، كما أنه كثيرا ما كان يبدأ كلامه ب "أحييكم من أعماق قلبي"، " تْحَيِيخْشْكُمْ زِي رَادْجَاغْ أَنْ وُورْ إِنُو". ولا يخفي بعض الشبان المثقفين، الذين يفضلون البقاء على هامش الحراك، إعجابهم من جهة بتجربة حركة "الغاضبون" (los indignados) أو حركة 15 ماي (El Movimiento 15-M) التي فرضت منذ 2011 نقاشا سياسيا وفكرا نقديا جذابا بإسبانيا، سواء في الساحات العامة أو على مواقع التواصل الاجتماعي، حول إعادة الاعتبار للفضيلة والسعادة ومشاعر المحبة في عالم السياسة. وكان من بين شعاراتهم: "نحن نحمل عالما جديدا في قلوبنا"، وكذا الشعار الثوري "إذا لم تتركونا نحلم لن نترككم تنامون". وأبدى الشباب إعجابهم من جهة أخرى بحركة "بوديموس" "قادرون" (Podemos) التي كان أحد أقوى شعاراتها حين تأسيسها لحزب سياسي في مارس 2014 هو "نحن لسنا لائحة (يقصد لائحة انتخابية). نحن صرخة. نحن الفرحة لأننا الأكثرية!" (No somos una lista, somos un grito. Somos alegría porque somos mayoría). ثمة شعور مضطرب يتصارع ويمتزج فيه الإحباط وعدم الرضى بقوة الطموح والعزيمة والأمل الجامح، مما لم يقتل فيهم الحلم بغد أفضل، فهم متشبثون بالحياة رغم تضاؤل الآمال في عيونهم، وهذا ما يعبر عنه باللهجة الريفية المعتقل أنس الخطابي مغني الراب: "أبدا، لا تقل أبدا، لا تقطع الآمال"، "عَمّاسْ، وَقّا عَمّاسْ، وَقَطَعْ بُورَايَاسْ". *أستاذ حقوق الإنسان والعلوم السياسية بجامعة محمد الأول بوجدة