يظل سؤال الإبداع والمثقف داخل المجتمعات من أهم الإشكالات التي لا يمكن التنصل منها إلا بإيجاد جواب يساعد على فهم المرحلة. وقد كان للمبدعين والمثقفين دور في صناعة صور للمشاهد الثقافية؛ لذلك نجد عبر التاريخ أن فضاءات المدن والأوطان تتغذى مما أنتجه المبدعون والمثقفون في فضاءاتها وما كتبوه عنها، ولذلك عرفت مدن وأحياء، لا بجغرافيتها الطبيعية، وإنما بجغرافيتها التي شكلتها النصوص، مثل طنجة شكري، وبوسطن إدغار بو، وباريس بودلير، ودبلن جويس، وموسكو دوستويفسكي، ليس لأن ما كتبه هؤلاء كان استثنائيا، وإنما لأنه كان ببساطة إبداعا نابعا عن "ألم" وعلاقة إعادة إنتاج الفضاء الذي كتبوه أكثر مما كتبوا عنه. كتبت عبر تاريخ العالم الملايين من النصوص، لكن عددا قليلا، يعد على رؤوس الأصابع، هو الذي حافظ على حضوره كقيمة فنية وإبداعية. وهذا معلوم ولسنا في حاجة إلى أن نكرر الحديث عنه. لكن المثير اليوم هو أن يصبح الأدب مجرد وسيلة أو "كارت فيزيت" لكسب المزيد من العلاقات العامة؛ إذ صار "الكاتب" أشبه بمقاول يستجمع كل صفات الناشر والطابع والمروج والمترجم ووكيل الأعمال والمكلف بالعلاقات العامة، بل والصحافي الذي يحاور (نفسه باسم مستعار) وينوب عن الناشر، إن وجد، في تقديم طلب المشاركة في جائزة. لعل هذا صار ثقافة الراهن عالميا. وإن كان المشهد في الوطن العربي، وتحديدا المغرب، له خصوصياته التي تجعل من هذه الثقافة "التسويقية" تتلون بالكثير من مظاهر الانتكاسة والتراجع؛ إذ نعلم أن السياق الأمريكي، الذي يعتبر فيه الإبداع الذي ينخرط في المنظومة العامة، يخضع لمنطق السوق وفقا لمعايير وشروط تجارية من جهة، وشروط الآلة المنتجة لنمط المعرفة المطلوبة. فثقافة "البيسط سيلر" والدورة التسويقية وشروط الإنتاج، كل هذا "محكوم" ويستجيب لمتطلبات الخطاب الثقافي الرسمي المهيمن. وإذا كنا ننتقده بما يحمله من تسطيح وإفلاس للوعي النقدي "المشاغب"، فإننا نفهم أن مشروع "الدولة" واضح وطبيعة المنظومة واضحة والأهداف من وراء ذلك تكاد تكون بادية للعيان. وهذا ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن أسوأ ما في أمريكا (ونقصد الولاياتالمتحدةالأمريكية) هو هذا الإخضاع الممنهج لكل مناحي الحياة، بدء بالقوانين المنظمة للجوار وانتهاء بقوانين وأنظمة إنتاج النص والفنون، وإن كان ذلك يترجم مطلبا اجتماعيا إلى حد ما بسبب القيم الفلسفية التي حكمت "العقل الأمريكي". ترى لماذا يجعل المبدع العربي/المغربي النموذج الأمريكي معيارا له في الإبداع؟ ولماذا صار هم "المبدع" هو التهافت على العالمية؟ ولماذا يجعل من إبداعه مجرد "أداة" لا هدفا في حد ذاته؟ وهل الثقافة الأمريكية السائدة، أقصد ثقافة المكدونالد والبيسط سيلر، هي الوجه الحقيقي للإبداع؟ نعرف أن المنظومة الرأسمالية استطاعت أن تنجح في "تسليع" كل شيء، بل صار الاقتصاد الأمريكي اليوم جله "اقتصاد الذكاء" واقتصادا يعتمد على صناعة "المعلومة" التي يستثمرها من أجل صناعة "معرفة" تجعل الفرد والسوق في "حاجة" إلى ما يُراد بيعه. ولعل المتتبع للواقع الأمريكي بعد أزمة 2008، يدرك جيدا مدى التحولات الخطيرة على مستوى الوعي الاجتماعي والواقع الاقتصادي، بل هناك تحول على مستوى القيم الأمريكية ذاتها. وهذا كله يكشف لنا انفضاح واقع كثيرا ما كان مغيبا أو متخفيا من وراء أقنعة. وهي الأقنعة التي اجتهد وناضل مثقفون كبار، من أمثال إدوار سعيد وتشومسكي وكثير من المثقفين العرب، من أجل إسقاطها. غير أن ما يفاجئنا هو أن يتماهى عدد ممن يعتقدون أنفسهم "مبدعين وفنانين" مع الواقع الأمريكي، أو بالأحرى ثقافة المكدونالد، فيسارعون إلى البحث عن صفات "فنان" و"أديب" والهرولة وراء صغار أمريكا لنسج علاقات عامة، الهدف من ورائها الظفر بالإقامة أو السفر إلى الولاياتالأمريكية، التي يكون من ورائها البحث عن مكان، مهما صغرت قيمته أو هامشيته، لنقل أعمالهم إلى الإنجليزية، معتقدين أن الترجمة، وإن لم يقرأها أحد، ستجعل منهم مبدعين عالميين! لكن همّ المبدع كما يعلمنا الخطاب الإبداعي والفني هو البحث عن "حقائق"، والجواب عن أسئلة نابعة من صميم واقعه ومحيطه. ولم تتحقق العالمية، عبر التاريخ، إلا بالإفراط في الخصوصية والإقليمية، بحثا عن المشترك الإنساني، لأن التجربة الإنسانية، وتجربة الفرد ورؤاه، هو ما يجعل منه منفتحا على العالم. إن العالمية تقتضي أن يبحث عنك "الآخر" وأن يهتم بك، لا أن تبحث عنه أنت وتذهب إليه! أليس من الأفضل أن يتواصل المبدع والمثقف مع شباب المناطق المعزولة، حيث يحيا العزلة والإحباط العديد من خريجي الجامعات من المعطلين، ومن رجال التعليم المهمشين، ومن الموظفين الحكوميين، وهم في حاجة إلى من يزرع فيهم "الحلم" وينصت إلى أسئلتهم وحاجياتهم الثقافية والجمالية وينمي طاقاتهم الإبداعية الخلاقة؟ ألا ينتبه هذا المبدع المنبهر بفنادق الشرق إلى أن من يسافر إليهم في لوس أنجلوس وباريس ولندن يأتون باحثين عن "جماليات" و"ثقافة" و"شباب" المناطق التي لا يهتم بها "مثقفونا"؟ ألا يعلم أن "الخبراء" الغربيين لم يتوقفوا عن "دراسة وزيارة" المغرب منذ عشرات السنين، وأن البعثات الطلابية لا تتوقف؟ ألم يتساءل يوما عن طبيعة اهتمام الوفود الغربية الآتية إليه باحثة ودارسة ومستكشفة؟ ألم يتساءل أن أغلب هؤلاء لا يهتم بما تنتجه المراكز التي يمثلها "الرحالة/المبدع المغربي"، وإنهم يرتادون المقاهي الهامشية والشعبية وينصتون إلى بسطاء الناس؟ ألم يتعلموا من درس بولز وغيره وباقي جحافل المستشرقين؟ ألا يعلم أن الدراسات الصادرة اليوم تهتم بأزقة المدن القديمة وشقوق جدرانها ومطاعمها الشعبية، كما يهتمون "بأحاديث النساء المغربيات في الأسواق" (نعم هناك عمل ضخم صدر يهتم بهذا) والختان و"حفلات الأعراس"؟ ألا يعلم هؤلاء أنه لو نجحنا في أن نقنع الأمريكي بأن المغرب ليس جزءا من الشرق الأوسط سنكون قد حققنا الكثير؟! ترى هل المبدع المغربي، الذي صار أشبه بالرحالة الذي يطوف العالم شرقا وغربا وشمالا -لا جنوب في رحلاته-مقتنع بهذا الدور الكاريكاتوري الذي يلعبه وبشكل مثير للسخرية والشفقة؟ ماذا يجني هؤلاء من رحلاتهم إلى عواصم الشرق العربي حيث كل شيء باهت واصطناعي ومتصنع؟ لماذا هذا التكالب المحموم على جوائز وندوات ومؤسسات آخر ما يمكن أن تفكر فيه هو المشروع الثقافي والفني الحقيقي؟ ماذا يعني أن يسافر الناس ويقطعوا المسافات الطويلة، والإقامة في فنادق فاخرة والتقاط الصور في قاعات الفي اي بي ثم يدخلون قاعات مكيفة ليناقشوا مشروع "الحداثة والتنوير في العالم العربي"، وفي الحي المجاور عمال يعاملون معاملة العبيد؟! ماذا يعني أن يقرأ الشعر في قاعة مكيفة جل كراسيها فارغة والمجتمعات العربية تختنق من شدة الجهل والجوع والحاجة والأمراض؟ نعلم أن الشعر ضرورة. نعرف أن الإبداع الفني حاجة وضرورة ليست أقل قيمة من الطعام، لكن قراءته في القاعات الفارغة وتجشم عناء الرحلات لا يدخل في باب الضرورة الفنية! وأقول مع المرحوم هادي العلوي: "إن الأكثرية الساحقة لمثقفينا لا تفرق بين ثقافة غربية وثقافة حديثة وهي تستلهم النقائص الغربية على السواء، ولا تفرق بين فكر رسمي وفكر معارض وتخدم الجميع على السواء، وسلوك مثقفينا مأخوذ من هذه الثقافة؛ ولذلك نجد التكالب عندهم على الامتيازات (...) عندنا شعراء ينظمون شعرهم عن الجياع، لكن حلمهم الأقصى هو الحصول على قصور يسكنونها ليكتبوا فيها الشعر، لأن الشعر عندهم لا يكتب إلا في ظروف جيدة! ولا أستطيع التسمية لأن فيهم عمالقة وأصدقاء. جميع الكتاب يتكالبون على ترجمة مؤلفاتهم إلى اللغة الغربية حتى يقرأهم الغربيون ويشتهروا في الغرب. ومعظمهم يدفع رشوة لهذا الغرض، مؤكدين تبعيتهم للمرجع الغربي، ومن هنا ضعف شعورهم الوطني وانسلاكهم في مسلك العولة".