لا شيء يُرضي «إسرائيل»، فلا إنكار أو التقليل من صدقية روايتها بشأن «الهولوكوست»، ولا حتى الإقرار بها يُشفي غليلها، إذْ لا بدّ من الاعتراف بفاتورة حساب تبقى مستمرة مع الزمن، وقد أقدمت ألمانيا منذ عقود من الزمان على دفع تعويضات بمليارات الدولارات، وفعلت سويسرا ذلك تحت بند ودائع ضحايا الهولوكوست «النائمة» في مصارفها. وقد صوّت البرلمان البولوني مؤخراً بالأغلبية على قانون «يجرّم من يشير أو يحمّل بولونيا أية مسؤولية عن التخلّص من يهودها» (حوالي ثلاثة ملايين) خلال الاحتلال النازي لها. وقد أثار هذا القرار حملة ««إسرائيلية»» عنيفة للضغط على الرئيس البولوني أندري دودا لثنيه عن المضي في إقرار القانون، لأن «إسرائيل» تريد من الجميع الشعور بالذنب وتحميلهم المسؤولية، عن جرائم الإبادة الجماعية تلك، وفي الوقت نفسه الحصول على تواطئهم على ممارساتها العدوانية وانتهاكها لحقوق الشعب العربي الفلسطيني. وكان إيغون ردليخ عضو المنظمة الصهيونية «ماكابي هاكير» قد كشف في مذكراته التي عُثر عليها في مدينة غودوالدوف (التشيكية) العام 1967 بعد إعدامه في العام 1944، حين كان معتقلاً في معسكر أوستفيز، عن تعاون اليهود مع النازية في إرسال بضع عشرات من المتموّلين اليهود والقيادات إلى فلسطين، مقابل إرسال مئات الآلاف من اليهود إلى معسكرات الموت. وقد تسنّى لكاتب السطور زيارة هذا المعسكر المُرعب في خريف العام 1969 والذي يبعد عن مدينة كراكوف البولونية نحو 70 كيلومترا، واستمع إلى بعض الشهادات وقرأ الكثير عنه وعن معسكرات الاعتقال تلك في وقت لاحق. ولكن ما الذي حصل ليتّخذ البرلمان البولوني مثل هذا القرار في هذا الوقت بالذات، حيث تتوجّه الأنظار إلى قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الهادف نقل السفارة الأمريكية إلى القدس؟. ويبدو أن هناك دولاً بلقانية حاولت هي الأخرى التنصّل عن مسؤولياتها، بشأن «محرقة اليهود» وذلك في سعيها للحصول على «براءة ذمة» من «إسرائيل» وتحسين علاقتها معها. فكرواتيا، وعلى الرغم من امتناعها عن التصويت على مشروع القرار الخاص بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، إلّا أنها أقدمت على التوقيع على صفقة سلاح مع «إسرائيل» للحصول على طائرات «أف 16»، علماً بأنه كان يوجد في كرواتيا معسكر اعتقال هو الأكبر خارج ألمانيا النازية هو معسكر «ياسنوفيتش» ويُعرف «أوستفيز البلقان». وكانت صربيا ذاتها قد احتفلت باليوم العالمي «للهولوكوست» باستذكار العلاقة التاريخية باليهود تملقاً واسترضاء ل «إسرائيل». أما الحالة في ألبانيا وكوسوفو، فالأمر مختلف لكون المسلمين يشكّلون الأغلبية في البلدين، ومن المفارقة أن يكون عدد اليهود قد ازداد في ألبانيا في نهاية الحرب عمّا كان قبلها، وهو ما يوثقه الباحث السوري محمد الأرناؤوط الخبير بالشؤون البلقانية، ولكن الأمر مختلف بالنسبة لكوسوفو التي احتلتها إيطاليا الفاشية العام 1939. وحين يستذكر الكوسوفيون اليوم ما تعرّض له اليهود، فإنهم يربطون ذلك بحملة الإبادة التي تعرضوا لها من جانب صربيا عامي 1998-1999، وكم كان جديراً بهم لو استحضروا ما يتعرّض له الفلسطينيون يومياً من قمع وأعمال إبادة. يمكن القول إن مواقف الكثير من القوى البلقانية في السلطة وخارجها، مثلما هي مواقف الدول الاشتراكية السابقة التي كانت متعاطفة مع العرب ومؤيدة لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، انقلبت رأساً على عقب عشية وبُعيد انهيار جدار برلين العام 1989، فأعادت علاقتها مع «إسرائيل» التي ظلّت مقطوعة منذ العام 1967، ومنحتها حظوة باعتبارها «الدولة الأكثر رعاية»، وهو ما يعكس حقيقة «اللوبي اليهودي» الذي عمل كقوة ناعمة في هذه البلدان. وكان كاتباً يُدعى ييرجي بوهاتكا (واتّضح لي أنه اسم مستعار وظلّ لغزاً حتى الآن) قد كتب 4 حلقات في مجلة المنبر (المنصّة) في العام 1975 حول علاقة الصهيونية بالنازية، ولفتت إحدى المستشرقات نظري إليها، فقمت بترجمتها وإعدادها للنشر، في 5 حلقات في «مجلة الهدف» الفلسطينية، ثم نشرتها بكرّاس بعنوان «مذكرات صهيوني» في العام 1986، ورويت قصتها في مقالة نشرتها عن جورج حبش زعيم الجبهة الشعبية عند وفاته في العام 2008، حيث كان بوهاتكا قد أعدّ كتاباً للنشر في براغ، وقام باستلام مكافأته وأشرف على طبعه وتدقيقه، لكن الكتاب اختفى قبل يومين من إصداره، وكان بعنوان «النشاط الصهيوني في الدول الاشتراكية». وخلال فترة البريسترويكا وما بعدها برز النشاط اليهودي، سواء بالهجرة اليهودية من الاتحاد السوفييتي السابق ودعم «إسرائيل» بالعنصر البشري، أو بحلّ اللجنة الاجتماعية السوفييتية لمناهضة الصهيونية التي أسسها الرئيس أندروبوف العام 1983، أو بالدور المريب في روسيا لاحقاً، وكان باكورة ذلك مقتل ي. يفسييف العالم السوفييتي المناهض للصهيونية في العام 1990 في ضواحي موسكو. [email protected]