يشكل فاتح ماي، عيد العمال الأممي، مناسبة متجددة لاستحضار الأبعاد التاريخية المرتبطة بالحركة العمالية، ومناسبة لقياس الحركية الاجتماعية، ودرجات التوتر الجماهيري، في علاقة بمطالب عموم فئات الشغيلة. وفي بلادنا، ومنذ مطلع الاستقلال، لم يكن الزخم الجماهيري الذي كانت تشهده استعراضات فاتح ماي معزولا عن النضال السياسي والديمقراطي بأبعاده المختلفة؛ إذ كانت شعارات فاتح ماي تعكس وتترجم الأبعاد الكفاحية للعمل النقابي باعتباره واجهة زاوجت بين البعد التأطيري لعموم الفئات النقابية، والبعد النضالي الرامي إلى استنهاض القطاعات الواسعة من العمال، والفلاحين، والمأجورين، والمستخدمين، والطلبة، وفئات من الطبقة الوسطى... لموقعتها داخل نسيج الصراع السياسي المتأجج. فكان فاتح ماي صدى للدينامية الاجتماعية والنقابية والسياسية التي شكلت في محطات تاريخية حاسمة المداخل "الموضوعية" لتحقيق القفزات الممكنة في سلم الإصلاح السياسي ببلادنا، و"ترموميترا" لقياس طبيعة موازين القوى مع ما فرضته من تغييرات في طبيعة النظام السياسي. ولعل هذا ما كان يفسر توظيف النقابة كدعامة سياسية لتحقيق المكاسب المفترضة في سيرورة النضال الديمقراطي، وهو ما يفسر القول إن "الطبقة العاملة وحركتها النقابية لا يمكن أن تضمن مكاسبها، وأن توسع منها إلا إذا اعتمدت أيضا النضال السياسي الديمقراطي بجانب الجماهير الشعبية الأخرى، وبتفاعل تام مع حركة التحرير الوطني..." (عن الحركة العمالية المغربية-صراعات وتحولات). ومع التطورات المتلاحقة التي شهدتها الحركة العمالية العالمية، ومن ضمنها الحركة العمالية بالمغرب، أصبح الامتداد النقابي والجماهيري موضوع مساءلة حقيقية، حيث أضحت النقابات أكثر انكماشا وضعفا في الوقت الذي تعرف فيه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لفئات عريضة من المجتمع تدهورا ملحوظا، وهي مفارقة تسجل تدهور الحماس الشعبي إلى أدنى الدرجات في وقت كان من المفروض أن يصل فيه الانخراط الجماهيري إلى أعلى مستوياته. وهنا وجب التساؤل: ألم تكن النقابة أكثر امتدادا وفاعلية في أزمنة الحصار مما هي عليه اليوم؟ ألم يكن لشعار الكفاحية صدى عند عموم الشغيلة وسندا لها لترجمة استعداداتها للتنظيم في مختلف القطاعات دفاعا عن مطالبها الملحة؟ وهل تحسنت شروط وعلاقات الإنتاج القائمة لتبرير كل هذا العزوف والتراجع غير المسبوق؟ ألم تكن النقابات مضطرة لإلغاء تظاهرات فاتح ماي خشية انفلات الشارع؟ واليوم، من حقنا أن نتساءل عن الحجم الحقيقي للفعل النقابي، وعن إمكاناته الذاتية والموضوعية لإدارة الصراع الاجتماعي وتحقيق المكتسبات لفائدة الشغيلة في مرحلة تاريخية تعرف تفتيتا متزايدا لقوى الإنتاج، وفي سياق يسجل فيه الاقتصاد الجديد زحفا خطيرا للخيارات الرأسمالية المتوحشة، فهل تقدر النقابات على مجابهة الباطرونا ومنطق السوق وسياسة الدولة السائرة في طريق رفع اليد على القطاعات الاجتماعية الحيوية وإعلان حالة التقشف وسلك طريق التوازنات المالية على حساب السياسات الحمائية والمضي في تحرير الأسعار؟ وهو ما ينذر بالمزيد من التوترات، واتساع دوائر الفقر، والتهميش، والحرمان الاجتماعي، والعنف، والأمراض... نعم، إن شروط الربط الموضوعي بين المعارك العمالية والمعارك السياسية لم تعد قائمة كما كانت في السابق بحكم معطيات عديدة، لعل أهمها التحول الاستراتيجي في المنظومة النقابية بعد تبنيها لشعارات من قبيل "النقابة المواطنة" و"النقابة الشريك" و"التحديث النقابي"، فيما هو إعلان عن خروج النقابة من دائرة الفلسفة الاشتراكية التي كانت تسند الفعل العمالي عبر العالم، وانخراطها في فلسفة الليبرالية الجديدة التي تعلن فيها النقابة نفسها شريكا في دورة الإنتاج. غير أن هذا المنحى اختلت شروطه في بلادنا لصالح الباطرونا والبرجوازية واختيارات الدولة، وتحول فيه الحوار الاجتماعي إلى مجرد أداة للتنفيس الاجتماعي وليس لآلية حقيقية لتوزيع الثروة الوطنية بشكل عادل على كل الفئات الاجتماعية، وإقرار سياسات ناجعة في صالح الفئات الضعيفة، وإقرار قانون منصف للشغل. إن انحصار العمل النقابي اليوم بقدر ما يعلن التفتيت المتزايد في قوى الإنتاج، وضرب القدرة الشرائية للفئات المستضعفة، بقدر ما يصرح ب"نجاح" المنظومة الرأسمالية العابرة للقارات في فرض مفاهيمها الجديدة في تدبير العلاقة مع السوق ومع الحكومات، بتحويل النقابة نفسها إلى مؤسسة للسخرة العمومية وللوساطة الاجتماعية، وللتنفيس الاجتماعي. وإذا كانت هذه المهام الجديدة لا تنجز–هي الأخرى-دون عناء أو احتقان، فإن الخطر المحدق بالمسألة الاجتماعية هو فشل هذه الأدوار، وتغليب منطق السوق على حساب الفئات العريضة من المجتمع، وتحويل الدولة إلى راع للأغنياء على حساب الفقراء، وحاضن للرأسمال الفاحش على حساب التوزيع المتكافئ لفائض القيمة.