في الوقت الذي تتناسل فيه الأغاني المحتفية بحب الوطن، وترفع فيه الأعلام الوطنية على الخشبات الفنية للمهرجانات، ويصدح المداحون على شاشات القنوات الإعلامية في رسم دروس الوطنية، يأتي استطلاع للرأي أنجزه موقع Recrute.com، المتخصص في مجال الوظائف، ليكشف أن 91 في المائة من المغاربة مستعدون لترك البلاد والعيش في الخارج. هذا المعطى يحمل دلالات متعددة وقد يفتح أسئلة عميقة للنقاش، تبدأ بصدمة النسبة المرتفعة من المغاربة الذين عبروا عن رغبتهم في مغادرة المملكة، وتمر عبر حقيقة الأسباب الكامنة وراء هذا الموقف، لتنتهي عند رسم صورة عن واقع البلاد وأفقه المستقبلي. أن يحزم الإنسان حقائبه ويقرر ترك الوطن والعائلة، هي مسألة ليست بالسهلة، بل هو قرار صعب جدا حتى في زمن الحروب والكوارث والنكبات، لكن مؤشرات ذلك قد تظهر في ضعف وتدهور البنية الاقتصادية للبلاد، واستفحال ظاهرة البطالة، وقلة فرص الشغل، وتراجع الدخل، وغلاء الأسعار، وسياسة الدولة التقشفية، التي ساهمت في تراجع القدرة الشرائية للمواطنين، أضف إلى ذلك ضعف الخدمات الاجتماعية التي تبدأ بأزمة قطاع التعليم ومساهمته في تردي مستوى التعليم والتربية من جهة، وكذا تدهور خدمات التطبيب والعلاج من جهة أخرى، وهو شيء يشي بفشل السياسات العمومية في ركوب رهان التنمية في أغلب المجالات. أمام هذا الوضع، أصبح المواطن المغربي خائفا ومتوجسا من المستقبل، ويفضل البحث عن آفاق أوسع وأرحب، وفرص عيش أوفر بمناطق جغرافية بديلة وبيئات ملائمة تضمن استقرار المعيشة وتعليما ذا جودة للأبناء والأحفاد، وسوق شغل غني بالفرص، وحظا أفضل لولوج العلاج الصحي وخدمات الترفيه، ومنابع التكنولوجيا، والتقاط ريح الحرية والديمقراطية، والاحتكام إلى القانون. وما هجرة الأطر والكفاءات للبلاد بشكل متزايد إلا خير داعم لهذا القول، مستغلين في ذلك حاجة دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية إلى اليد العاملة المؤهلة، فيختارون المكوث هناك، سواء للعيش أو الدراسة، وما يصاحب ذلك من تفريغ مقلق لدول العالم الثالث من طاقاتها البشرية، التي هي عماد كل تطور اقتصادي واجتماعي. في المقابل، يمكن القول بأن تعبير المواطنين المغاربة عن رغبتهم في الهجرة هو بمثابة شيء عادٍ وطبيعي، بالنظر إلى موقع التراب المغربي القريب من أوروبا، وتوافد عدد مهم من المغاربة على بلاد الخارج خلال النصف الثاني من القرن 20، لكن ذلك يرتبط إلى حد ما بهجرة نوعية تشمل أساسا اليد العاملة البسيطة، التي تشتغل في قطاعات المناجم والبناء والتجارة، وكذا الشباب العاطل الباحث عن أحلام لمستقبل أفضل، في حين إن الأمر في الحالة الراهنة أصبح يشمل قطاعا عريضا من الطبقة المتوسطة المتعلمة، التي تحتل مواقع مهمة في سوق الشغل والوظائف. من الممكن أن يكون مد الهجرة يدخل ضمن سياق دولي في ظل تداعيات ما يعرف بالعولمة، وتكسير مبدأ الحدود بين الدول لتشمل حرية التنقل حتى بين البشر، إضافة إلى الأموال والتجارة، سعيا إلى بروز المواطن الكوني الذي يتسع له المجال للعيش في أية بقعة من كوكب الأرض، وهذا ما نلاحظه في تنقل عدد من الأوروبيين في غالبيتهم من المتقاعدين للعيش في المغرب. إذن، فما المانع من تنقل المغاربة للعيش في بلادهم تكريسا لمبدأ حق الإنسان في التنقل الحر، والبحث عن العيش الكريم. في زمن ازداد فيه وعي المغاربة ليكتشفوا سلوكيات طافحة بالمفارقات للنخب المسيطرة على المال والاقتصاد والسياسة، أضف إلى ذلك بعض شخصيات عالم الفن والرياضة الذين يفضلون تمضية أوقات كبيرة من حياتهم خارج الوطن بحثا عن جودة حياة أفضل وبيئة سليمة لتدريس أبنائهم، وللعلاج والتطبيب والترفيه، بل هناك منهم من يستفيد من جنسية البلد المستضيف ضمانا لموطن وملاذ آمن لماله وعياله في فترة التقاعد وفي فترة النكبات عندما يعفى من مهامه في وطنه الأول، وتنقضي مصالحه، ليحزم حقائبه حينذاك لاجئا إلى بلده الثاني. فإن هجرة تربة الوطن، والهروب إلى الأوطان الأخرى، قد تنطوي أبعادها على رفض مواجهة الواقع ومقاومته، والبحث عن الحلول السهلة التي جعلت الوطن غارقا في أوحال الفقر والفساد وفي قبضة أيادٍ تقدم مصلحتها الشخصية على مصلحة الوطن.