إذا ذكرت لك البخاري، فربما سيرتحل ذهنك توا نحو عبيد البخاري من أقسموا والمولى إسماعيل على أن يكونوا عبيدا لكتاب "صحيح البخاري". وفي ذلك إلماعة جلية إلى مكانة البخاري عند السلطان المغربي وجنده. فلا قسم إلا بوحي: "وما ينطق عن الهوى.إن هو إلا وحي يوحى." وربما يطير ذهنك صوب الدروس الحسنية في تقديمها للدرس قبل ابتدائه من لدن المحاضر. هي أشياء، إذن، مختلفة تشي بمكانة صحيح البخاري في الثقافة المغربية. لكنني الآن سأخاطبك بشأن الكتاب الذي خطه السيد رشيد أيلال وأحدث ضجة في الوسط الثقافي: "صحيح البخاري ...نهاية أسطورة". يبدو العنوان تجاريا صرفا، غير أكاديمي، ذا غاية ربحية. وهو يزعم إنهاء "أسطورة" الصحة، أي أن متن الكتاب قول فصل. وإذا كان القرآن الكريم يعتبر كلام النبي وحيا، "وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى"، فإن الكتاب سيحاول أن يعمل معوله النقدي لتمحيص هذه الفكرة السائدة. يخاطب الكتاب جزءا حيويا من هوية المغربي. فالدين الإسلامي جزء من المخيال الشعبي والكتاب جاء لرج المخيال رجا لتنبيه المتلقي كونَه يعيش في وهم ساحق. سيندهش البعض: لِمَ محاولة تفكيك "أسطورة" كتاب تغذت منه أجيال عديدة في نقط مبعثرة من الأرض؟ سأهمس في أذنك: أليس الباحث مكوَّنا لمناقشة صنوف متلونة من الأفكار؟ فحتى فكرة "الله" ممكن مناقشتها بأسلوب علمي صارم، ثم إن الديمقراطية فسيحة لأي تناول نقدي ! هذا ما يشي به التفكير المثالي. فهل هذا يعني اختفاء المقدسات في كنف الديمقراطية؟ كلا. وبرهان ذلك محاكمة المفكر الفرنسي روجيه غارودي لاقترابه من فكرة المحرقة وتمحيصه أعداد قتلاها في كتابه الشيق "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية". وإذا كانت فرنسا الحرية تزعجها الأفكار الجريئة، فكيف سمح السيد إيلال لنفسه في سياق مغربي متعثر أن يقول إن صحيح البخاري ليس أصح كتاب بعد القرآن؟ كتاب يؤمن به رائدا النهضتين الماليزية والتركية: السيد مهاتير محمد والسيد رجب طيب أردوغان، أي أن الإيمان به لم يؤثر على قدرة الفعل العجيب لدى كليهما. فهل الإفلاح في طمسه سيخلق بؤرا نوارانية في الواقع المغربي؟ لا، أعتقد ذلك. فمثل هذه الكتب موجهة للنخبة في زمن اللاقراءة. يكفيك أن تسأل رجل الشارع عنه وستلفي الرد اليقين. فهل ألفى السيد إيلال كتابا بديلا للمغربي أمام العولمة والهجومات الشرسة للثقافات الغازية وهو يعرف الجهالة المستشرية وسط المجتمع؟ ما هو الكتاب المقترح الذي سيخلف كتابا تعلم منه الرجل الأمي بواسطة الواعظ النظافة وتنظيف الأسنان كما يحض على المعاملة المثالية؟ أقول ذلك والجيل الصاعد يبدو بلا هوية ولا يتقن حتى كتابة اسمه. فما هو البديل المقدم كذلك لهذا الجيل المتصحر؟ لندع العولمة. هل تعلم أن حرب الحضارات قاسية اللكمات مع دونالد ترامب وكم عدد المبشرين الأنكليكانيين الذين يقصدون المغرب وغيره من رقع العالم الإسلامي لجذب العديد من الأتباع؟ أليس الكتاب مساهمة في إهداء جيل ضائع إلى أمثالهم؟ هل سينتعش النظر العقلي لدى شعب كثير الأمية بتأليف مثل هذه الكتب؟ هل علَّم السيد إيلال عشرة نفر، على الأقل، القراءة والكتابة والفعل المدني المتحضر بعيدا عن العالم الغيبي؟ إن مناط "صحيح البخاري" هي الحكمة وفيه جوانب أخلاقية رفيعة، فهل علي أن أتخلص من هذا الكتاب وأرمي به في سلة المهملات أو المرحاض؟ فما ليس صحيحا لا قيمة له. وإذا أضفنا البعد الاتصالي للنص الديني، فقد نستخدم نصا دينيا إمعانا في حجية حديثنا، مثلما قد يفعل غيري بحديثه عن بوذا أو كونفوشيوس. فهل أنا ضد العمل البحثي الرصين؟ كلا. لكني، أرى أن كل عمل بحثي يجب أن ينظر إلى عقابيل العمل قبل الخوض في أي موضوع. فالجابري رحمه الله وبقامته السامقة لم ينزع إلى هذا المنزع، بل كان يدعو إلى كتلة تاريخية تجمع الأبيض والأسود على مشروع تاريخي لأجل رقي الشعب المغربي، أي أنه كان ينزع نحو التوحيد. فالبشر خلقوا ليختلفوا ويتفقوا. والعقل أداة للاتفاق أو الاختلاف. فكما قد نختلف حول تأويل النص الديني، قد نختلف حول محصلة النظر العقلي. برهان ذلك اختلافنا حول القتل الرحيم. فإذا التجأنا إلى صحيح البخاري، سنقول بحرمة ذلك، احتراما لقداسة الحياة، أما إن أعملنا النظر العقلي، فقد نجيز ذلك رأفة بجسد منهك معذب. لا تدخل ذلك في خانة الحرية، فللحرية حدود. وليس لذلك ارتباط بالمناخ الديمقراطي. فالحجاب ممنوع، مثلا، في المدارس الفرنسية، كما يمكنك ثَمَّ مهاجمة نبي الإسلام دون مراعاة لمشاعر الأقلية المسلمة. وقياسا على ذلك. هل كان يجب مهاجمة "صحيح البخاري" دون اعتبار ذلك مساسا بمقدس لدى الأغلبية السنية المغربية؟ فالبخاري ليس هو كليلة ودمنة وليس ألف ليلة وليلة. ونعرف حجم التغذية الخيالية التي بمقدورالعملين القيام بها وسط الفئة القارئة. هل يجب أن أهاجم ألف ليلة وليلة لكونها مجهولة المؤلف؟ هل لرأيي من سداد وأنا أعرف حجم القوة التخييلية لهذا المتن القصصي في عقول الناشئة كما اعتبره غذاء تخييليا حيويا؟ إنني لا أتفق مع الصوفية في تقديسهم المتطرف للشيخ، لكن هذا لا يعني ألا أستفيد من رؤيتهم الدينية ومبدئهم الجميل "التخلية والتحلية"، أي التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل. فهل يدفعني نبذ بعض مبادئ الصوفية إلى نبذ الصوفية برمتها؟ هل ألتمس من شخص عاش حياة الدعة والعربدة سلفا أن يخلي ما بين يديه: "الكتاب الذي بين يديك فرية عظمى. أنصحك بطرحه." أأقول لصديقي المسيحي قياسا: "الإنجيل ليس كلمة الرب. والدين أفيون الشعوب المسيحية والخلاص هجر القساوسة والكهنة."؟ أليس في ذلك هدما لقنطرة التسامح والمحبة بين الأمم؟ أليس في نسف حجية صحيح البخاري اختلاق ثلمة في جدار تأويل النص الديني؟ فالسنة تفسر مجمل القرآن. وإذا أزحت البخاري، فسينفتح النص القرآني على تأويلات شتى تسع أغراضا شتى، قد تجمع ضمنها المتناقض. ستقول إن في ذلك إغناء للنص الديني، لكن هل كل من هب ودب بمقدوره هذا الإغناء؟ فحتى المتطرف مستعد لهذا الإغناء توا وبدون تكوين ديني متين، بل إن المتطرف قد يتخذ أي كتاب ذي رؤية نقدية جديدة هجوما على الإسلام وباعثا على تجنيد أتباع جدد؟ أليس في ذلك تقوية لجناح التشدد؟ ندرك أنه في هذه الأوقات العصيبة التي تندر فيها لحظات السعادة يرتمي كثيرون في حضن التدين بحثا عن السعادة، أأقول لهؤلاء أيضا: "توقفوا. أنتم تؤمنون بخرافات وأساطير تلوث أذهانكم. كفى؟" إن السياق المغربي سياق مختلف. فالملكية في المغرب تغتذي من النص الديني. فنصوص البيعة نصوص دينية. فهل هذه النصوص أيضا أساطير وجب اطِّراحها؟ وهل من نصوص بديلة لذلك؟ هل يستطيع المغاربة العيش دون ملكية، علما أن أغلبية الشعب غير متعلمة، وحتى وسط المتعلمين جهلة متخلفون؟ أليس الحري استحضار البعد السياسي ونحن نكتب في مجال العلوم الإنسانية؟ إنني أتساءل.