حاصل على جائزة نوبل للأدب سنة 2006، وأحد الكُتّاب الذين توفقوا استثنائيا في تحقيق نجاح نقدي ثم جماهيري.. استغلت المجلة الفلسفية فرصة حلوله بمدينة باريس كي تلتقي به ليتحدث عن مساره الروائي والمفكرين الذين أثروا فيه: من سارتر إلى جورج لوكاتش. لكن هذا الديمقراطي الملتزم بدا خاصة مهتما جدا بانقلاب بلده تركيا نحو نظام أوتوقراطي. يظهر أن الشخص الذي يستقبلنا وسط إحدى قاعات منشورات غاليمار أكبر بكثير قياسا للأرائك الصغيرة الزرقاء المخملية، ليس ساقاه أو ذراعاه، بل عيناه الساحرتان.. تضيئان بنور مختلف حجرة لا يعرف قط إن كانت لوحة تسعى إلى تجميد ماض اختفى أو مكان عبور، ثم نسخة أنيقة وباريسية لقاعة الاستقبال في المطار. لكنه مكان يناسب جيدا أورهان باموق، الكاتب الذي ينحاز نحو الوقوف في الوسط، وأول روائي باللغة التركية حصل على جائزة نوبل للأدب سنة 2006. لفت إليه الأنظار في تركيا منذ روايته الأولى، وجعل من إسطنبول مدينة عالمية وتركيا المعاصرة كوكبا أدبيا..حكى عن التقاليد العثمانية ثم الطموحات الغربية لبورجوازية مغرمة بمشروب الراكيا وكذا الحرية.. قاده انتماؤه المزدوج هذا، وكذا ثقافته الأدبية الكبيرة جدا والفلسفية الغربية كي يستلهم ثانية على إيقاع الموسيقى التركية الشرقية الرموز الكبيرة للرواية المعاصرة. فيتشكل مع هذا المضيء-المعتم أفق مختلف عن الحياة، حيواتنا، مرآة تغير صورة قيمنا الأوروبية. حلم أورهان باموق الطفل أن يصبح رساما.. اليوم، يَطرح علينا السؤال التالي: كيف ستكون رؤيتنا للعالم إذا لم يؤسسها منظور؟. ذهب باموق الموسوعي حد تأسيس متحف واقعي انطلاقا من إحدى نصوصه رواياته: متحف البراءة. رحلة من خلال أشياء حب خفي. دشن سنة 2012 وسط حي عتيق متواجد في إسطنبول، لا يفرغ أبدا. فقد عرفت تلك الأعمال الثاقبة نجاحا كبيرا في تركيا، وهي حقيقة استثنائية، هكذا قاربت مبيعات عمله الصادر مؤخرا، المعنون ب: "cette chose étrange en moi"، 250 ألف نسخة. يروي باموق وفق استلهام فني قريب من صنف رواية المغامرة والتشرد حكاية بائع متجول قدِم حديثا من مسقط رأسه بالأناضول.. سنعبر معه خمسين سنة تحيل على تاريخ سياسي متقلب؛ لذلك، لم يختف الكاتب قط خلف رواياته. باموق ديمقراطي شجاع، دافع دائما عن حرية التعبير، غير متردد على الدوام بهذا الخصوص، كي يتناول قلمه وإبداء رأيه؛ سنة 2005 كسر الطابو حينما أقر بمسؤولية بلده في تصفية الأرمينيين عام 1915، توبع قضائيا، وتعرض لتهديدات بالقتل، فكان ضروريا أن يغادر، كي يعود الكرة بشكل أفضل؛ هكذا يكرر اليوم أيضا، بصوت متزن لكن بلهجة حازمة: "لا مستقبل لبلد دون حرية التعبير !"، وعيناه دائمتا المرح. كيف أصبحت كاتبا؟ وهل صحيح انكب سعيك بداية على فن الرسم؟ في سن السابعة أو الثامنة كنت أرسم باستمرار. يقول الجميع، أفراد أسرتي، مكونات المدرسة: "يا إلهي ! إنه رسام". خلال تلك الحقبة، شرعت أصابعي في الرسم تلقائيا، دون استيعاب للأمر حقيقة. كنت سعيدا وأنا أرسم. شجعني الجميع. غير أني ولدت في كنف أسرة مهندسين مدنيين، إذ شيد جدي سككا حديدية، ثم اقتفى أبي وعمي خطاه. خاطبوني: "لماذا لا تصبح مهندسا؟ فالمهندس أيضا رسام ومهندس في الوقت ذاته". لكن بدراستي الهندسة شعرت كأن أداة مفك ستحفر دماغي، هكذا غادرت الجامعة وقررت أن أصبح روائيا. تلك السنوات التي قضيتها ما بين السابعة والثانية والعشرين، أتطلع كي أكون رساما، هيأتني نحو حياة عزلة الروائي. منذ سن الخامسة عشرة تجلى لدي بوضوح أني سأقضي حياتي داخل غرفة كي أبدع شيئا ما. حاليا لم أعد أرسم، اللهم لحظات الثمالة. من هم المفكرون والكُتّاب الذين أثروا فيك؟ من بين الأشخاص الذين أدين كثيرا بفضلهم أشير إلى جورج لوكاتش، الفيلسوف وسوسيولوجي الأدب. منذ سنتين، ذهبت إلى بودابست واستفزني موقف الحكومة المجرية حينما أرادت تحطيم تمثال له. هو ناقد أدبي ملهم جدا. تعلمون، التأريخ لمرحلة جورج لوكاتش الشاب صاحب بالأحرى التوجه الكانطي، فألف كتاب: نظرية الرواية (1916)، رؤية في غاية الشعرية لمعنى الحياة، ثم لوكاتش المتأخر- إذا أمكنني قول ذلك- أكثر هيغيلية، يصارع الحداثة والتجريب. بالنسبة إليه، لا ينبغي للاشتراكيين الجدد اتباع الممسوس كافكا بل كتابة روايات تقليدية كبيرة على منوال توماس مان. هكذا وللأسف اتبع أورهان باموق الشاب والبئيس نصائح لوكاتش مع مشروع روايته الأولى: (جودت بك وأبناؤه)، وهي حكاية ميثولوجية كبيرة أسروية كلاسيكية جدا. بعد مرور أربعين سنة، وفي إطار عملي الجديد: ''هذا الشيء الغريب الذي بداخلي''، رجعت إلى الحكاية الملحمية، لكن وفق حس تجريبي ومشاعر أكثر عمقا وحميمة. كذلك مثَّل جان بول سارتر مرجعية كبيرة لك؟ يرجع فضل اكتشافي لسارتر إلى أبي. كان الأخير شابا متحمسا، أراد أن يكون شاعرا، ينحدر من أسرة ثرية، تزوج ولا يزال بعد شابا، لكنه لم ينعم بالسعادة في ظل تلك الحياة، ما اضطره للفرار إلى باريس؛ وبالتالي لم يتواجد في المنزل خلال سنة (1958-1959)، وأراد حقا أن يصير كاتبا، فاستلهم أبطالا من صنف جان بول سارتر وألبير كامو. أتذكر هذا الكتاب الصادر سنة 1955 وغلافه لمؤلفه فرانسيس جونسون: Sartre par lui même)). أستعيد صورة أبي، مفتونا، حتى قبل أن يصبح كاتبا. وقد قرأت ترجمة انجليزية ل''الوجود والعدم''، وهو نص أدبي جدا، لازلت أتذكر مقطعا منه تكلم عن نظرات نادل يبعثها نحونا، ثم الكيفية التي يدرك بها الآخر. وهذا مسني بعمق، إلى حد أن ظهر في روايتي"الكتاب الأسود" مع تلك الصورة المتعلقة بالعين التي تراقبني. كل ما أحببته عند سارتر، الكاتب الفاعل في النصوص الفلسفية، حينما يوضح أفكارا فلسفية من خلال شخصيات، وصور، ومشاهد. قادر على ترجمة مفاهيم فلسفية مجردة إلى صور ومشاهد. كذلك، تعلمت الكثير من موقفه خلال حرب الجزائر، والتزامه الثابت إلى جانب الشيوعيين أحيانا والاشتراكيين أحيانا ثانية، وبكيفية مستقلة غالبا. وكيف أصبحت كاتبا في تركيا سنوات 1960؟ لقد تكلمت كثيرا عن مساري في نص "إسطنبول، ذكريات مدينة"، لكن ليس عن علاقة الاجتماعي بالكتابة. كيف يحتضنك المجتمع باعتبارك كاتبا؟ هل تعلمون أن أسرتي اعتقدت أني مجنون؟ فكيف بغلام ينتمي لعائلة ميسورة اتخاذ قرار التحول إلى كاتب في بلدي مثل وطني؟ لقد تحسروا على موقفي هذا. احترمت أبي بشكل يفوق الحد، لأنه الوحيد الذي استوعب وقتها موقفي، وشجعني بكيفية ما من خلال مكتبته التي احتوت ثلاثة آلاف كتاب. فأن أقنع الدائرة الأولى والثانية كي أصير كاتبا لم يكن جنونا مميزا لسنواتي الأولى. فعلا، كرهت الضغط، قالوا لي: "كن شخصا طبيعيا، وحاول أن تصبح مهندسا أو رجل أعمال !". هكذا أردت البرهنة تماما لكل العالم، إمكانية أنه يكون الشخص كاتبا وعاديا، في الآن ذاته، بحيث لم أعش قط حياة بوهمية. لم أتعاط مسكرا أو أفصحت عن سلوك جنوني شاذ. بل حاولت البرهنة أني أمارس عملا جادا، وللأسف مثلما حدث مع كثير من الكُتَّاب، ستواجه أعمالي الأولى صعوبة في الإصدار، ما ضاعف كثيرا مخاوف أسرتي. تخيلوا قليلا ما أود الإحالة إلى معناه: "لقد كرس أربع سنوات لكتابة روايته الأولى، ورغما عن أنف الجميع…لكن ماذا يريد أن يصنع من نفسه؟". بيد أنك صمدت؟ نعم، لكن صدقا، توفر لي خلال تلك الحقبة دخل صغير قارب خمسمائة دولار، دعَّم صمودي كي أصير كاتبا؛ بينما توجه أصدقائي المثقفون لخوض غمار السياسة، ما جعلهم عرضة لمعاناة كبيرة، وتعرضوا غالبا للتعذيب، ثم تحولوا إلى الإشهار أو الصحافة؛ أما أنا فلم أكن محتاجا إلى جل ذلك بفضل الدخل المالي الذي أشرت إليه. عملك الصادر حديثا في فرنسا، والذي وضعت له كعنوان: "هذا الشيء الغريب الذي بداخلي"، وشخصية رئيسية تسمى ''ميفلوت كاراتاس''، البائع المتجول، عاش خمسين سنة مراقبا لتحولات إسطنبول، والانقلابات العسكرية، وكذا نشأة مدينة عملاقة.. على عكس أبناء عمه أو أفضل صديق له، يكابد ''ميفلوت'' في سبيل إحراز تقدم على المستوى الاجتماعي، مع ذلك لا يبدي قط تذمرا. إلى أي شيء يعود سر سعادته؟ أنظر إلى "ميفلوت'' كصيغة امتداد لفكر التفاؤل في الأدب. إذا ارتفعنا قليلا فقد اتصف هذا البطل بسلامة طوية كانديد (فولتير)، وامتلك حيوية وقوة جوليان سورل (ستاندال)، ويؤمن بصيغة حركية اجتماعية نحو الطبقات العليا؛ لقد أبان أيضا عن شكل من الانتهازية.. أخيرا، أظهر تلك الإرادة الملهمة للأبله (أحد أبطال دوستويفسكي).. شخصية تكشف عن كل هذه الوجوه، فهو الطيب، والأبله، والساذج، لكن سذاجته بمثابة طريقة قصد التجول بالقارئ عبر الفضاءات المختبئة لمدينة إسطنبول.. مثلا، يبرز صيغة مرعبة للبراءة حينما قال: "أحبٌّ الشيوعيين نظرا لاهتمامهم بالفقراء، لكن لماذا لا يؤمنون بالله؟".. ساذج جدا، لكن هناك أيضا سؤال أطرحه على نفسي: لماذا لم يتصرف الشيوعيون مثل بيير باولو بازوليني، الذي أدرك على نحو خلاق كيفية المزج بين الكاثوليكية والماركسية؟ هذه الفكرة ليست ساذجة، بل تظهر كأنها كذلك.. ربما ذكية جدا. لكن وحده طرح السؤال يعتبر ساذجا. ما أحاول التعبير عنه أيضا أن الحياة في مدينة كبيرة تتواجد داخل موطني يفرض عليك إخفاء قناعاتك السياسية، وكذا أفكارك الشخصية. يميز شخصية ميفلوت شيء في غاية الصلابة؟ يكمن مفتاح فهم ميفلوت في الصداقة التي تجمعه بزوجته، لذلك تغمره السعادة.. لا يعود هذا إلى خاصية استثنائية تميزه، بل يلزم فقط التذكير بأن أشخاصا مثل ميفلوت في تركيا يذهبون إلى الحانات بعد وجبة العشاء كي يحتسوا الشاي، وهم يتابعون عبر شاشات التلفيزيون مباريات كروية أو يلعبون الورق، بينما تقبع النساء في المنازل صحبة الأبناء. ونتيجة لطبيعة مهنته، فقد اقتضى الأمر تعاون ميفلوت مع زوجته، فكان ذلك سببا لنشأة علاقة قوية، متفردة قياسا للنمط السائد. ما يميز ميفلوت في هذا الإطار ليست سذاجته بل زخم أواصر علاقته مع زوجته "رايحا". هناك أيضا معطى جد تقليدي عبر قوله: "لن أتوقف قط عن بيع البوظة (مشروب كحولي خفيف)؟ خلال تلك اللحظة، مع نهاية الرواية، صار ميفلوت قريبا مني. فحينما قَدِم إلى المدينة مهاجرا لم يكن يضمر أي حنين. لكن بعد أربعين سنة، مع متابعته للذكريات، والعمارات، ثم المدينة وقد خربها الإسمنت، حينذاك بدأ يعيش على إيقاع الحنين، وبكيفية ما أكثر حكمة، حين قوله: "لن أتوقف أبدا"، بوسعي تمديد جملته وأضيف: "عن إبداع نصوص روائية". ذاك أيضا شكل من أشكال مقاومة الإنترنيت، والأفلام، والإعصار الذي يلفنا. إنها الإتيقا الشعرية لرجل مهنته في طريقها إلى الانقراض، وحرفته آخذة في التلاشي. كما السعي حيال الكتابة، يلزم الوضع إتيقا للمقاومة. يصمد ميفلوت ككاتب معترض على تسليع العالم. تناسب هذه الرواية لديك طريقة جديدة في الحكي. مغادرة الأحياء العصرية لمدينة إسطنبول، حيث ترعرعت، ثم الانغماس في مدينة ثانية، تلك التي تشكلت فوق التِّلال، أو إسطنبول مدن الصفائح التركية؟ باعث رغبتي في تأليف هذا العمل هؤلاء القرويون، التقليديون، المتدينون، ذوو المستوى التعليمي البسيط، الذين وضعوا رحيلهم في إسطنبول..لم يغيروا فقط هذه المدينة، بل الأخيرة غيرتهم. تأسس عملك منذ أمد بعيد على التعارض مشرق-غرب وضرورة بلورة نموذج حداثة مشرقية، قادرة على إرباك الحمولات الغربية – الحرية والتقدم – لكن أيضا في أفق تمثلها ضمن هوية تمتص عظمة الماضي، الإمبراطورية العثمانية. هل الأمر كذلك دائما؟ اتجهت روايتي الأخيرة بشكل أقل إلى أسئلة الحضارة، وكذا تساؤلات الأتراك الذين تَأَوْرَبُوا européanisés. لأن هاجس الأفراد في الشارع ينصب على قضية كيفية كسبهم لخبزهم اليومي حتى يستمر بقاؤهم. بداية، اخترت إعادة رسم حياة بائع متجول، ليس بالضرورة بائع المشرب الكحولي المسمى عندنا البوظة.. غير أن الأخير يثير نقاشا أحبه: هو مشروب كحولي خفيف لازال صامدا ضمن سياق تركيا الحديثة. لماذا؟ لأنه يشيع رؤية رومانسية عن الإمبراطورية العثمانية، وكذا الهوية التركية. وإذا كانت الأخيرة دينية، فلا يجوز لنا التعاطي إلى مشروب البوظة!، لكن وقد سبق لأجيال تركية أن تناولته، فهذا يمثل كذلك جانبا من هويتنا. إذن، هذا يجعل شخصيات نصوصي تتكلم.. كما يبرز النقاش حول الحضارة. هل لازالت ثنائية شرق/غرب قوية كما السابق؟ سؤال لاَزَمَ تركيا منذ مائتي عام، كما الشأن في روسيا، واليابان. مائة سنة قبل أتاتورك، تطلع سلاطين وكذا الإدارة العثمانية نحو تبني ثقافة حديثة، غربية. وعندما تبرز رغبة كتلك للتغيير لدى النخبة فمن الطبيعي إظهار الطبقات الشعبية لنوع من المقاومة. هو الموضوع الأساسي لرواياتي، لأن تركيا تنتمي في الوقت نفسه إلى أوروبا وآسيا. كل الأتراك، حتى من صوتوا لصالح أردوغان، يفتخرون بالجمهورية التي شيدها مصطفى كمال أتاتورك. لا ننعم بديمقراطية، لكن حتى في ظل سلطة دولة قذرة، نعتبر النموذج الأكثر ديمقراطية مقارنة مع باقي البلدان الإسلامية، ونتباهى بذلك. إذن، الوضع معقد جدا. القضايا التي أستحضرها في رواياتي تسكن قلوب كل الأتراك. لا شيء أسود أو أبيض. فلا يوجد من جهة مسلمون متخلفون، ثم آخرون ليسوا كذلك. الوضع تتجاذبه الأطراف، مرتبك، وتمتزج ضمنه المواقع بالأشياء، وهذا هو المهم. نشعر كأنك تنسج خيوط تقرير خاص جدا زمانيا، حيث الأدب والروايات بمثابة شعاعه الموجه. كيف أن الحياة في نهاية المطاف ليست سوى إعادة قراءة دائمة للماضي؟. بداية القرن العشرين تأثرت الحداثة كثيرا بهنري برجسون. توخى الكُتَّاب إبداع شيء ما.. هكذا شرعوا في توظيف رموز زمانية. وبعد جوزيف كونراد، وُضع جانبا السرد الخطي. أمر مهد الطريق أمام الكُتّاب، بخصوص ما لا تجيزه الحكايات الملحمية. بالتالي، تغمرني السعادة إن تمكنت مع ذات الجملة كي أضع ثلاثة أزمنة: الحاضر، الماضي، وكذا فكرة مستقبل إحدى الشخصيات.. بحيث يتذكر شيئا ما، بينما هو بصدد القيام بشيء آخر، ويحدس مستقبله.. فقد غير هذا أيضا شعورنا نحو ما هو حي في هذا العالم. يكتب الفلاسفة باستفاضة عن الزمان، لكن وحدهم الكُتاب يصنعون شيئا بهذه المفاهيم. وتيارات الوعي، ثم الفلاش باك أو تقنية استرجاع الماضي، كل ذلك يعتبر أساسيا من أجل فهم الأشخاص.. الزمان، مجمل ذلك. منذ مدة مزجت أعمالك بين الحقيقة والخيال. وعلى منوال بلزاك، تسافر بعض شخصياتك من رواية إلى أخرى. أنت بدورك استُشهد بك غالبا كراوٍ. لقد كرست متحفا لتاريخ شخصياتك... يقوم الكُتَّاب بهذا، غالبا بكيفية متكتمة. أنا، لا أتسلى كثيرا. تعلمون، توجد أشياء مذهلة. فعنواني روايتي الأخيرة: "هذا الشيء الغريب بداخلي"، يلح علي منذ زمن طويل، دون أن أتبين حقيقة جدواه المحتملة. أقول لنفسي: "ربما ستكون سيرة ذاتية؟".. وقد أهديتها إلى شخصية ميفلوت. تعلمون بوجود سلطة للأدب. أنا سعيد لتوفري على قراء، لكن لا نكتب فقط بهدف ممارسة سلطة أو تبليغ رسالة معينة. أن تكتب، يمثل كذلك ممارسة قد يتأتى لنا من خلالها الإحساس بأنها تخلق معنى، وذات أهمية. إنها طقوس، وصنف من الحرفة القروسطية. يمتلك الكاتب نوعا من الإتيقا المعاصرة، إذ إنك لا تكتب من أجل جني المال أو كي تصبح بورجوازيا صغيرا، بل بهدف تحقيق ارتياحك الوحيد، ثم تصديك لدعاوى السوق. هذا كذلك مهم داخل فؤاد الكاتب، أي دلالة هويته الخاصة. لعبت النساء والحب دورا مفصليا ضمن صفحات نصوصك. كل أبطالك أو تقريبا يبحثون عن استمالة أو استعادة أو صيانة، بعدم نسيان امرأة. كيف تحدد الحب؟ آه! لا أستطيع. يمكنني تدبيج حكايات عن الحب، واصفا شخصيات مصعوقة عشقا، لكن من بوسعه حقا إدراك معنى الحب؟ تبرز ربما أعمالي اختلافا: لا أريد وضع الحب فوق قاعدة تمثال. احتمالا، لأني منحدر من بلد لا يلتقي فيه الرجال بالنساء غالبا قبل الزواج. هل تتخيلون أن 55 إلى 60 % من مشاريع الزواج لازالت حتى الآن مرتهنة بترتيبات الوساطة. مع ذلك، من باب الإنصاف، وعلى عكس مما نظنه عموما، تحققت زيجات مرتبة كرست كثيرا من الحب، كما الشأن مع شخصية ميفلوت. تصوروا أنكم ترون فقط شخصا بين فترات متباعدة، فكم يحتاجه السياق كي يتحقق التبلُّر النفسي من أجل تحقق الشعور بالحب ! في أوروبا الحديثة، يحتاج ذلك إلى قليل من الصداقة.. ملاحظة الفتاة كيف تأكل قطعة ساندويتش، ثم طبيعة تصرفها نحو أبيها حين غضبها، ونوعية الفيلم الذي تحبه، ولون حذائها.. حيثيات تمهد لك السبيل كي تحب. لكن ماذا تصنع في حالة عدم مشاهدتك للفتاة؟ المسكين ميفلوت كتب لها ثلاثمائة رسالة ! الذي يبرهن على حبه ليس محتوى الرسائل، بل مبادرته كي يكتب إليها. سيختلف وقع الحب في حالة عدم رؤيتكم للفتاة. نقترب من دانتي Dante. تنم فكرة الحب عن كثير من الشعرية والتسامي والتحول. مع ذلك يقبِّل الرجال والنساء بعضهم البعض في الأفلام، بل تقدم القاعات السينمائية عروضا بورنوغرافية. هكذا خاصية العالم الفوضوي الذي تتخبط داخله شخصيات رواياتي. وهل يشتعل الحب غالبا جراء نظرة؟ شائع هذا المعطى في وطني، لكن حسب كل الأحوال، دون أن تمتلك حق إلقاء نظرة ثانية !. تلقيت منذ عشر سنوات تهديدا بالموت وتمت متابعتك قضائيا لأنك تحدثت عن إبادة الأرمن عام 1915. القضية التي تظل موضوعا محظورا في تركيا. فماذا تظن؟ وماذا يلزم لبناء بلد حينما يُمحى التاريخ؟ أنا سعيد للتطورات الاقتصادية التي عاشتها تركيا طيلة السنوات الخمس عشرة الأخيرة، لكن لا مستقبل مع انعدام حرية التعبير. إمكانية التطرق إلى ما وقع سنة 1915 تشكل قضية لحرية التعبير. حاليا نحن قلقون من القمع وفقدان الحرية.. نعاين أشياء مرعبة. فبعد محاولة الانقلاب الفاشلة سنة 2016 أسرعوا إلى طرد 130 ألف شخص، قضاة، وموظفين في سلك الشرطة. بعضهم لم يعثر ثانية على عمل، فوقعت مجموعة من حالات الانتحار، ولا أحد يتكلم عن ذلك في الصحف. أيضا اعتُقل ما يناهز 50 ألف شخص، والعديد منهم دون محاكمة، ما يحيلنا على أسوأ الروايات الكافكاوية. ألقي ب70 صحافيا في السجن وتم اتهامهم بالإرهاب. هكذا مشهد الوضعية مثلما تبلور خلال السنوات الثلاث الأخيرة. أنا غاضب وقلق جدا، بكل أسف صارت الأوتوقراطية تفرض نفسها أكثر مما أمكنني تصوره. وهل فاجأكم المآل؟ نعم ثم لا. هناك على أي حال نسبة 49% من الأفراد يرفضون وجود هؤلاء على سدة الحكم، ومن الصعوبة أن تجبرهم على أي شيء، ينبغي تذكر ذلك. في ظروف كهاته، أي دور يمكن أن يشغله الكاتب أو المثقف؟ أكتب روايات.. ليس من أجل تغيير المجتمع. بالتأكيد يمثل هذا السعي أحد محفزاتي، لكن يبقى بعده في غاية الصغر. مادمت أؤمن أكثر بمفعول التأويلات الصحافية. أحيانا تشعر بأنك مكبوت، فتنزع بالتالي إلى الإدلاء بآراء سياسية، ممارسا هذا التطهير..غير أنهم لم يتابعوني قط بسبب رواياتي، لكن دائما جراء أحاديثي إلى الصحافة. إذن، فلتتوقفوا فورا عن طرح الأسئلة !(قهقهات). *هامش: Philosophie magazine: numéro 118 ;Avril 2018. pp: 68-73.