بينما يبحث قادة دول غربية عدة، أبرزهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، توجيه ضربات عسكرية في سوريا رداً على تقارير حول هجوم كيميائي وجهت أصابع الاتهام فيه إلى دمشق، من المتوقع أن يبدأ محققو منظمة حظر الأسلحة الكيميائية عملهم ميدانياً اليوم السبت. وأعلنت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، أول أمس الخميس، أن بعثة تقصي حقائق في طريقها إلى سوريا، وستبدأ اليوم السبت عملها؛ بعد أسبوع من وقوع الهجوم الكيماوي المفترض. وبدا كل من ترامب والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي مقتنعين بحدوث الهجوم، في حين نفت دمشق وحليفتاها موسكو وطهران أي استخدام للسلاح الكيميائي. وتحدثت روسيا عن "مسرحية" وامتلاكها أدلة على "تورط بريطانيا مباشرة" بإعدادها لحث القوى الغربية على القيام بعمل عسكري ضد دمشق. ولا تزال تفاصيل ما حدث يوم السبت الماضي في مدينة دوما غير واضحة، خصوصاً أن قوات النظام السوري تتحكم بالطريق الى المدينة؛ وهو ما يجعل إمكان تحقق الصحافيين مباشرة من المعلومات بشكل مستقل مهمة صعبة. ماذا حدث؟ تعرّضت مدينة دوما، آخر جيب تحت سيطرة الفصائل المعارضة في الغوطة الشرقية قرب دمشق، لقصف عنيف السبت الماضي بعد تعثر مفاوضات مع روسيا لإجلاء مقاتلي فصيل جيش الإسلام من المدينة. قرابة الساعة الرابعة عصراً، استهدفت غارة جوية فرناً في شارع عمر بن الخطاب في دوما، في ما يشتبه بكونه أول هجوم تسبب بحالات اختناق وفق مصادر عدة؛ بينها المرصد السوري لحقوق الإنسان. وأوردت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ومركز توثيق الانتهاكات، منظمتان معارضتان توثقان يوميات الحرب في سوريا، أن الهجوم تم بغاز الكلور. قرابة الساعة السابعة والنصف مساء، استهدفت غارة ثانية مكاناً قريباً من ساحة الشهداء في منطقة النعمان ويشتبه بأن الهجوم تم بغاز الكلور. وبناء على عوارض ظهرت على الضحايا، وبينها خروج زبد من الفم وحروق قرنية، رجّحت مصادر معارضة وطبية استخدام مادة كيميائية أكثر قوة كالسارين. قال طبيب عاين الضحايا في دوما لوكالة فرانس برس، في اليوم الموالي، إن المصابين وصلوا على دفعات إلى المشفى بعد وقت قصير من توقيت الهجوم الثاني المفترض. وكان معظمهم يعاني من حالات اختناق، بالإضافة إلى "رائحة قوية للكلور" على ثيابهم. تحدث شهود عديدون، بعد إجلائهم من مدينة دوما إلى شمال سوريا، عن ظروف مماثلة ووصفوا عوارض مشابهة. قال أحدهم، ويدعى أبو محمد (51 عاماً)، لفرانس برس: "كنت أهم بصعود الدرج من القبو، أصبت بضيق تنفس لا يوصف، مع اختناق ووجع في الرأس.. عدت أدراجي وقمت برش المياه على نفسي ومسح وجهي". صباح الأحد، أعلنت دمشقوموسكو اتفاقاً لإجلاء مقاتلي جيش الإسلام من معقلهم في دوما، وهو ما أكده الفصيل المعارض بعد أيام عدة، مؤكداً أن "الهجوم الكيميائي" كان السبب الذي دفعه إلى الموافقة على مغادرة المدينة. وإثر ذلك غادر على دفعات آلاف المدنيين والمقاتلين؛ بينهم القائد العام لجيش الإسلام، بعد تسليم مقاتليه لسلاحهم الثقيل. ماذا عن الضحايا؟ لا يزال عشرات الآلاف من المدنيين موجودين داخل مدينة دوما، وأمضى كثيرون منهم أسابيع في الأقبية والملاجئ جراء الهجوم العنيف الذي بدأته قوات النظام في المنطقة منذ 18 فبراير وتسبب بمقتل أكثر من 1700 مدني. أعلنت جهات معنية عدة أرقاماً متباينة عن عدد المصابين والضحايا جراء الهجوم؛ لكنها تؤكد جميعها مقتل بضع عشرات وإصابة المئات. وأعلنت منظمة "الخوذ البيضاء"، أي الدفاع المدني في دوما، في بيان مشترك مع الجمعية الطبية السورية الأمريكية (سامز)، وصول "500 حالة" إلى النقاط الطبية مع عوارض تنشق غازات سامة. وأعلنت المنظمتان عن مقتل أكثر من 40 شخصاً. من جهته، أشار المرصد السوري إلى مقتل 21 شخصاً على الأقل وإصابة 70 آخرين بحالات اختناق في دوما من دون أن "يؤكد أو ينفي" استخدام الغازات السامة. وتحدثت منظمة الصحة العالمية عن "تقارير بمقتل أكثر من 70 شخصاً يختبئون في الأقبية؛ بينهم 43 حالة وفاة متعلقة بعوارض تتناسب مع التعرض لمواد كيميائية سامة". نشرت منظمة "الخوذ البيضاء" على موقع تويتر صوراً قالت إنها للضحايا تظهر جثثاً مكدسة في إحدى الغرف، وأخرى لأشخاص بينهم أطفال يخرج زبد أبيض من أفواههم. وفي شريط فيديو نشرته المنظمة، أيضاً، ظهر مسعفون يصعدون على درج عليه جثة قبل أن يدخلوا إلى منزل فيه جثث لأطفال ونساء ورجال ثم يخرج المسعفون ركضاً ويقول أحدهم "الرائحة قوية جداً". كما ظهر في مقاطع فيديو أخرى أطفال يتلقون العلاج نتيجة صعوبة التنفس، يبدو عليهم الإرهاق. من هم المسؤولون؟ كانت منظمة "الخوذ البيضاء" في مناطق سيطرة الفصائل المعارضة، أول من تحدث عن هجوم ب"الغازات السامة" على مدينة دوما، موجهة أصابع الاتهام إلى قوات النظام. وخلال سنوات النزاع، اتُهمت قوات النظام مراراً بشن هجمات كيميائية في البلاد، الأمر الذي لطالما نفته دمشق؛ إلا أن منظمة حظر الأسلحة الكيميائية أكدت استخدام غاز السارين في هجوم على مدينة خان شيخون في أبريل الماضي، كما قال محققون أمميون أنه جرى استخدام المادة ذاتها في هجوم قرب دمشق شمل الغوطة الشرقية في العام 2013 وأودى بالمئات. وحسب مرصد سوريا، الذي يعنى برصد حركة الطيران ويتبع لمنظمة الخوذ البيضاء، فإن مروحيات وطائرات من طراز سوخوي توجهت إلى دوما بالتزامن مع توقيت الهجوم الثاني. وانطلق بعضها من مطار الضمير قرب دمشق، وشوهدت تحلق فوق المدينة. في مقطع فيديو نشرته المنظمة ذاتها بعد الهجوم المفترض، تظهر قذيفة كبيرة صفراء قالت إنها سقطت فوق المبنى الذي وجد فيه العدد الأكبر من الجثث. وفي مقطع فيديو آخر، جرى تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، بدت قذيفة مشابهة في غرفة نوم محطمة في موقع غير محدد. وبدت الاثنتان عبارة عن أسطوانتي غاز. ولم يتم التأكد من محتوى مقاطع الفيديو حتى الآن. نفت دمشق وحليفتاها موسكو وطهران الاتهامات الموجهة إلى القوات الحكومية السورية؛ بل اتهمت ناشطين معارضين بفبركة التقارير للفت أنظار الدول الغربية. وقال مصدر رسمي سوري: "الجيش الذي يتقدم بسرعة وبإرادة وتصميم ليس بحاجة إلى استخدام أي نوع من المواد الكيميائية". خلال الأشهر الأخيرة، كرّرت موسكوودمشق التنبيه إلى أن الفصائل المعارضة تحضر لعمل "استفزازي" وتحدث الإعلام الرسمي السوري عن احتمال شن الفصائل لهجوم كيميائي. واتهمت موسكو "الخوذ البيضاء" ب"فبركة" الهجوم الأخير "أمام الكاميرات". كما سارع مؤيدون للنظام على وسائل التواصل الاجتماعي إلى نشر صور تظهر عناصر من "الخوذ البيضاء" في موقع تصوير، وهي صورة مأخوذة من موقع تصوير فيلم "رجل الثورة" المدعوم من الحكومة. ماذا بقي للمحققين؟ قال سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، إن خبراء عسكريين روسا توّجهوا إلى دوما و"لم يعثروا على أي أثر للكلور أو لأي مادة كيميائية". وفي مقطع فيديو نشرته وزارة دفاع موسكو ظهرت سيارة للشرطة العسكرية الروسية وعناصر في المنطقة. كما عرضت روسيا مرافقة المحققين إلى المنطقة التي انتشر فيها عناصر من شرطتها العسكرية. لم تفصح منظمة حظر الأسلحة الكيميائية عن آلية عمل محققيها، مؤكدة أنها لا تكشف أي "تفاصيل" بهذا الصدد للحفاظ على "نزاهة" التحقيق. وكانت دمشق دعت المنظمة إلى التحقيق، مؤكدة أنها ستتعاون معها بشكل كامل. وتحدثت المنظمة بشكل عام عن آلية عملها المعتادة: قد يأخذ المحققون عينات كيميائية وبيولوجية، ومن البيئة المحيطة، لتحليلها مباشرة في الموقع أو خارجه في مختبر خاص بالمنظمة. وقد يجري المحققون مقابلات مع ضحايا، شهود وأعضاء من الكادر الطبي. كما قد يشاركون في عمليات تشريح. ومن المفترض أن يرسل الفريق تقريراً حول الوضع خلال 24 ساعة من بدء عمله، وآخر أوليا خلال 72 ساعة من عودته إلى هولندا وتقريرا أخيرا خلال 30 يوماً.