يمضي منصف مكزاري العقد الثاني من تواجده في السوق البحرينية مروجا ل"الزليج البلدي" المغربي، وهو الذي كان يستبعد أن يستقر يوما ما خارج المملكة، أو يخال أن له القدرة على قضاء أسبوع واحد دون الالتقاء بوالديه. سليل أسرة مكزاري الفاسية بادر إلى تطوير الصناعة التقليدية التي تلقى مبادئها منذ نعومة أظافره، لكنه لا يقرن نشاطه المتعامل مع أوراش خليجية كبرى مباشرة باسمه، وإنما يربطه بصورة المغرب التي يمثلها "الزليج". نصح ملكيّ ولد منصف مكزاري في مدينة فاس؛ أبوه صانع تقليدي حامل لأسرار صنعة "الزليج البلدي"، التي تتوارثها العائلة عبر الأجيال، أبا عن جد، لفترة زمنية تخطت خمسة قرون. نال منصف حظه من تعلم "صنعة الأجداد" بناء على رغبات والده، ويقول: "لدي أخ طيار وأخوان أستاذان جامعيان، كلنا تلقينا أصول الحرفة التقليدية خلال العطلة الصيفية وفترات الفراغ من الالتزامات الدراسية". يكشف مكزاري تفاصيل لقائه بالملك الراحل الحسن الثاني أيام الطفولة في فاس، ويذكر: "كان أبي يباشر عملا في القصر حين حملني الملك وقبلني قبل أن يطالب والدي بالحرص على تنشئتي بين المدارس وورش الصناعة التقليدية". "شدد الملك الحسن الثاني على ضرورة الحفاظ على الزليج البلدي لأنه بميز المغرب عالميا، ونصحنا بعدم التخلي عن صناعته بالطريقة التقليدية وحمايته من خطر الاندثار. ما وصلت إليه لاحقا بني على هذا النصح"، يزيد المتحدث نفسه. تفرغ مبكر درس منصف مكزاري في العاصمة العلمية للمملكة دون استكمال الطور الثانوي من مساره التعليمي، متدرجا بين مؤسسات في "باب فتوح" و"الزيات"، وصولا إلى ثانوية "مولاي ادريس". "منذ الصغر ووالدي يشدد على أن من لم ينجح دراسيا أو يظفر بحرفة لن يكون إلا لصّا في المستقبل؛ لذلك لم يبخل بالمساندة على من اختار متابعة دراسته من أبنائه، ودعمنا جميعا في الإقبال على الصّنعَة"، يقول منصف. غادر مكزاري مقاعد الدراسة عند بلوغه مستوى ما قبل الباكالوريا، منقطعا عن الفصول التعليمية ومتفرغا ل"الزليج البلدي" بشكل كامل. ومع توالي السنين، راكم الخبرات حتى أضحى حامل أسرار التخصص المهني لعائلته. روح العصر يقول المتخصص في "الزليج البلدي" إن ما راكمه دراسيا قد جعله حريصا على تطوير هذه الصناعة التقليدية وإبراز هذا المجال الذي ينهل من عبق التاريخ. ويزيد منصف مكزاري: "شغلني هوس تصدير المنتوج إلى الأسواق الخارجية؛ لذلك فكرت في حلول ناجعة جعلت السلعة تربطنا، لاحقا، بزبناء في أوروبا وأمريكا". يكشف "ابن فاس" أنه استثمر في تمكنه من أساسيات الهندسة، تعليميا وحرفيا، كي يرسي دعائم النظام الرقمي "ZAO" المساعد على إدخال روح العصر على تصاميم "الزليج". بإطلاق نشاطه التصديري، عمل مكزاري، المنتقل إلى الدارالبيضاء للسهر على حسن سير أعماله، على استبدال الإسمنت، أساس "الزليج البلدي" في حلته الأولى، بمادة أخرى، ويفسر ذلك بالقول: "تفاديا لاستنزاف الموارد المالية والبشرية، لجأت إلى لصاق خاص". "تصدير المنتوج الإسمنتي كان يتم بتجزيء قبل تركيبه في الأوراش خارج البلاد بعدد كبير من الحرفيين، بينما المنتوج الأحدث يحتاج فريقا مصغرا ينهي عمله في زمن أقصر، ويخفف الكلفة على الزبائن بشكل يشجع الإقبال"، يردف منصف موضحا. هجرة بالصدفة لم يخل مكزاري أنه سيعيش تجربة هجرة في الخارج وهو الذي استقر 18 سنة في الدارالبيضاء دون أن يمرر نهاية أسبوع واحدة دون ملاقاة والديه في مدينة فاس؛ حتى الإشراف على التصدير التزم به عبر معاملات من المملكة. عن الاستقرار في البحرين، يسرد منصف قائلا: "كانت الشركة في معرض في إسبانيا حين طالع مستثمر بحريني عروضا لما تقوم به، وبعد أيام وصل إلى المغرب لمعاينة الأداء الميداني في المعمل والأوراش، ثم اقترح عليّ زيارته في المنامة". "من غرائب الصدف أن مستضيفي في البحرين، في أول رحلة لي خارج وطني، كان يتعامل مع مهندس فرنسي اشتغل معي سنوات في المغرب. وحين التقينا ثلاثتنا، أوصى بي وضمن أدائي؛ وبذلك حصلت على صفقات هناك وأخذت أتنقل بين المملكتين"، يستحضر مكزاري. مراكمة الإعجاب بما تم إنجازه في "الزليج البلدي" المغربي جلب إلى منصف مكزاري مقترح مستثمر بحريني بإنشاء شركة تروج هذا المنتوج في كل الخليج. وبعد التوصل إلى تفاهم، انتقل منصف للاستقرار في المنامة بمعية أسرته الصغيرة. الإتقان والاستعجال "سفير الزليج المغربي في البحرين" يقر بكون الميدان الذي يرتبط به مهنيا يخاله البعض سهلا، بينما المطلعون على تفاصيله يدركون مدى صعوباته، ثم يسترسل: "صعب أن تقنع الناس بما لا يعرفونه، والأصعب تسويق ما ترتفع كلفته". ويشدد منصف مكزاري على أنه تشبث بالصبر في مساعي تطوير هذا المنتوج الفريد، مثلما راهن على الإتقان في العمل بجانب ضمان نقل "الصنعة" إلى حملة مشاعلها في القادم من السنين. تتوفر شركة المغربي ذاته على مقر في البحرين ومكتب آخر في قطر، ومنهما عمل على مستوى الفضاء الخليجي بأكمله، بينما فتح فرعا لشركته البحرينية في المغرب لإنجاز الدراسات التي يحتاج إليها "الزليج البلدي" الموجه للتصدير. وفي نصح مقتضب للباحثين عن النجاح، سواء داخل المغرب أو في تجارب هجرة خارجه، يقول منصف مكزاري استنادا إلى تجربته الشخصية: "ينبغي النأي عن الاستعجال واستحضار العزيمة والصبر، كما يتوجب حب العمل والإخلاص فيه".