على هامش مقال للمستعرب الهولندي السيد Jan Jaap De Ruiter ، نشره على موقع هسبريس بعنوان ( هكذا يخطط "الحرية اليميني" لمحو الإسلام من المجتمع الهولندي )، بترجمة من محمد الصالحي وعبد الحفيظ الشريف. أحب أن أعلق على بعض ما ورد في هذا المقال، وأحب أيضا أن أعبر بدوري حول هذا الموضوع؛ الذي يبدو أنه أصبح الموضوع المفضل لفئة من الكتاب والأحزاب وجل الفاعلين السياسيين في أوروبا عامة، وفي هولندا بالخصوص. في البداية أرغب، وبشدة، في تسجيل استغرابي لمحاولة لي ذراع التاريخ المخزي المتعلق بالإبادة الجماعية، التي تعرض لها المسلمون واليهود في الأندلس، لخدمة فكرة آنية وعابرة وغير محايدة بحسب ظننا. ويأتي هذا الاستغراب الشديد لكونه لا ينسجم لا مع المرحلة، ولا يتناسب ومقام الحديث. لا يمكننا بأي حال من الأحوال استحضار أمثلة بعيدة عن واقع اللحظة بتعسف مكشوف وإسقاطها جزافاً على ما يحدث اليوم؛ والمراد من كل ذلك التخفي وراء عدم إبداء رأي صريح وواضح ومستقل. في الوهلة الأولى يبدو لقارئ المقال وكأن السيد يان ياب دو راوتر يحاول دحض الإستراتيجية السخيفة لحزب خيرت فيلدرس، مدافعاً بشكل مراوغ عن كل هولندي مسلم مسالم. وهذا صحيح ولا يمكنني أن أختلف فيه مع السيد يان، لأن هدف يان المبطن من كتابة هذا المقال ليس هو تحليل العناصر الشعبوية/العنصرية التي تتسم بها خطابات فيلدرس وحزب "الحرية"، بل مناقشة الإستراتيجية الأمثل، التي تُمكن هذا الحزب من تسويق خطابه المتسم بالنبرة العدائية الواضحة، والدعوة الصريحة للكراهية وبث التفرقة بين كل مكونات الشعب الهولندي بمختلف أطيافه. متناقضات ومن المتناقضات التي يمكن الوقوف عليها بغرابة، قول الكاتب يان ياب دو راوتر في المقال الذي نحن بصدده: " من المؤسف جدا أن حزب الحرية اليميني لم يؤسس مكتبا للدراسات والبحوث العلمية، كما هو الشأن لباقي الأحزاب الأخرى. إن مثل هذا المكتب سيقدم ولا ريب خدمات جليلة وكبيرة في مجال البحث في قضايا التوقعات واستشراف الأبعاد السياسية لموضوع محاربة الإسلام التي يتباناها هذا الحزب". حسنا، إن الكاتب هنا يتأسف أسفا حقيقيا لأن حزب الحرية "اليميني" _ لا أعتقد أن الكاتب يعتبر هذا الحزب حزبا "متطرفا"، وهذه قناعته ولستُ هنا لأناقشهُ فيها_ لم يؤسس مكتبا للدراسات والبحوث العلمية كما هو الشأن بالنسبة لباقي الأحزاب الأخرى. إن هذا الأسف يمكن تسويغه وتبريره بكل الأشكال الممكنة، ولكن لماذا ينبغي لحزب متطرف أن ينشئ مركزا كالذي تحدث عنه الكاتب؟! شخصيا يجب أن أستغرب لو فعل، إنه أولا لا يشبه بقية الأحزاب، سوى إذا اعتبرنا مشاركته في العملية الانتخابية، وحصوله قبل ذلك على رخصة حزب، عندئذ كل ذلك يخول له صفة الشَّبَه ببقية الأحزاب، بمختلف تلاوينها وأيديولوجياتها. وثانيا لماذا ينشئ مركزا للبحوث الإستراتيجية، وهو أصلاً لا يستند سوى على خطاب تحريضي فج وسطحي، يدغدغ به فئة معينة من المصوتين الهولنديين! أما التناقض في كلام السيد يان، وبعد حديثه عن حاجة الحزب سيء السمعة في إنشاء المركز المذكور، هو قوله:" إن مثل هذا المكتب سيقدم ولا ريب خدمات جليلة وكبيرة في مجال البحث في قضايا التوقعات واستشراف الأبعاد السياسية لموضوع محاربة الإسلام التي يتباناها هذا الحزب ". إذاً هناك حاجة تتطلبها الضرورة لإنشاء مثل هذا المركز لحزب " الحرية"، ولكن السيد يان يفاجئنا، ومن دون انتظار طويل، فيقول: " إن التاريخ الأوروبي يعج بأمثلة من محاربة مظاهر الأسلمة، فلماذا يسعى هذا الحزب إلى محاولة إعادة اكتشاف العجلة من جديد، وكأن الأمر من وحي خياله، وخاصة إذا كانت المعلومات في هذا المجال متوفرة بشكل كبير في المكتبات وعلى مواقع الشبكة العنكبوتية. " وبهذا الطريقة في مخاطبة الآخر_ والحق إنني لا أعرف من هو هذا الآخر الذي يتوجه إليه السيد يان بخطابه_ تتجلى حقيقة الحاجة وعدم الحاجة في الوقت نفسه لإنشاء مركز الأبحاث؛ الذي بدت ضرورية للسيد يان! ويؤكد السيد يان هذا التناقض بقوله: " فلماذا يسعى هذا الحزب إلى محاولة إعادة اكتشاف العجلة من جديد، وكأن الأمر من وحي خياله، وخاصة إذا كانت المعلومات في هذا المجال متوفرة بشكل كبير في المكتبات وعلى مواقع الشبكة العنكبوتية". الهوية والثقافة شخصيا لا أحب مثل هذه المخاتلة في الكلام، وعدم توضيح الصورة كما ينبغي، من البديهي أننا جميعا ضد التيارات الراديكالية التي تتبنى نموذجا إسلاميا متشددا نائية بنفسها عن المفهوم المنفتح والمتسامح للإسلام الحق، وينبغي أن نعترف أن مثل هذه الفئة قليلة جدا وقد لا تشكل مخاوف حقيقية وواقعية على النحو الذي يوحي به المقال. دعونا نقرأ المشهد من زاوية مختلفة. في البداية كان الجدل قائما حول إشكالية الاندماج، وكانت هذه الإشكالية إشكالية حقيقية ولا أحد بمقدوره إنكارها، وهي قائمة حتى اللحظة، مع تسجيل ملاحظة لا بد منها: كيف يمكننا تعريف الاندماج؟! وما هي الآليات التي تخول لنا الحكم على هذا الشخص بأنه مندمج تماما في المجتمع الهولندي أم لا، وهنا لا بد من الإشارة إلى "محمد بي"؛ الذي اقترف جريمة إرهابية بشعة باسم الدفاع عن الإسلام، مع أن هذا الشاب، وبشهادة الجميع، كان قبل ذلك مندمجا ومواطنا صالحا في المجتمع الهولندي. وبوصولنا إلى هذا الحد من الكلام، يحق لنا أن نتساءل: ما الذي حرف نفسية وأفكار هذا الشاب ليصبح فجأة قاتلا باسم الإسلام؟! هناك خلل ما طبعا في هذه العملية المعقدة، ولكن يجب أن نتوقف قليلا عند مقولة للكاتب الفرانكفوني أمين معلوف: " لدي رغبة في أن أقول لبعضهم أولا: كلما انطبعتم بثقافة البلد المضيف استطعتم دمغه بثقافتكم "، ثم لبعضهم الآخر: " كلما شعر المهاجر بأن ثقافته الأصلية محترمة انفتح أكثر على ثقافة البلد المضيف". أكيد لستُ بحاجة لكي أؤكد أن ثقافة أي شعب تتكامل عبر عدة عناصر، ومن أهمها الخلفية الدينة، وعلى هذا الأساس يمكننا اعتبار الثقافة الغربية لا تتأسس عمليا على اللغة فحسب، ولكنها تتأسس في المقام الأول على مكون الدين كخلفية تحظى بالإجماع، وينبغي هنا التوضيح أن هذه الخلفية لا تعني مطلقا كون أن هذا المجتمع يعتبر مجتمعا دينيا، ولكن يمكننا اعتبار جذوره التي رسمت تركيبته الثقافية، هي خلفيته الدينية، ولو على مستوى اللا وعي. هل يمكن القضاء على الدين؟ أعتقد أن أكثر شخص يحتاج قراءة كلام أمين معلوف هو خيرت فيلدرس، إذا افترضنا أن مصلحة هولندا تهمه أكثر من مصلحته الشخصية، وهنا ينقل لنا الكاتب السيد يان فقرة مثيرة للاستفزاز من كتاب ألفه خيرت فيلدرس نفسه: " إن مأزق الإسلام ومشكلاته بسيطة وسهلة المنال، فبمجرد أن يقلع المسلمون عن دينهم وأن يتخلوا عن عقيدتهم، فستحل كل المشكلات وتخف كل الأعباء.." لا أحب أن أكون وقحا، ولكن وقاحة كلام المدعو خيرت فيلدرس تدعوك على الأقل لوصفه بالأبله والأخرق وعديم الذوق. لا لشيء إلا لحقيقة واحدة ولا أعتقد أنها تخفى على أحد. إنه من العبث محاولة محاربة أي دين أو أي عقيدة، مهما كان هذا الدين وَهْما ومهما كانت هذه العقيدة غير منطقية. ومما يكرس نية فيلدرس في خوض تجربة عبثية مثل هذه، ما ورد في قول السيد يان، وهو كلام إشكالي غير محدد بالدقة المطلوبة، لأن السيد يان يضعنا في مطب السخرية التي تقودنا إلى تأويلات جاهزة، ولكنها تخفي كل الحقائق جملة وتفصيلا، أي بمعنى أن السيد يان لا يفصح مطلقا عن موقفه الشخصي بالدقة المطلوبة، إنه وبطريقة الإشهار السلبي، يخدم الأطروحة العدائية والفاشستية لخيرت فيلدرس، وهنا نراه يقول بسخرية لا لون لها: "بعبارة أخرى، إن ترجمة هذه الرؤى السياسية على أرض الواقع تتطلب من حزب الحرية، بعد نجاحه واكتساحه للانتخابات البلدية والمحلية، أن ينظم دروسا بغرض محو الإسلام من قلوب المسلمين الهولنديين، وأن يتتبعهم في مختلف المدن والقرى الهولندية، ويفرض عليهم متابعة سلسلة هذه الدروس، التي ستطفئ شمعة هذا الدين في قلوبهم، وتخلص أجسادهم من أوزار ما اقترفوه، بإذعانهم لهذا الدين، ولم لا يسخر المساجد والمؤسسات الدينية الإسلامية كأقسام لتنظيم هذه الدروس؟". ابحث عن السياسة! من البديهي أن نلاحظ بجلاء أن مثل هذه السخرية، التي تمس الإسلام؛ كديانة يعتنقها أكثر من مليار إنسان على وجه هذه البسيطة، قبل أن تمس حزب وشخص خيرت فيلدرس، فإنها تكرس ذلك الهروب الذي ألمسه باطراد يطغى على ذهنية بعض المفكرين الغربيين، والمهتمين بشؤون الإسلام، إنهم يدركون تمام الإدراك أن كل أشكال التطرف والعنف سببها الرئيسي والوحيد هو البعد السياسي الذي يرخي بظلاله الثقيلة على منطقة الشرق الأوسط. إذا لم تحل القضية الفلسطينية على النحو العادل والكامل، فإننا سنظل نتوجس دائما من كل شخص ملتح، أو امرأة ترتدي الحجاب، أو أي شخص، يبدو مريبا ولا يمكننا تصنيفه إلا أنه عنصر قد يكون حاملا لحزام ناسف، أو يخبئ تحت معطفه سلاحاً آليا فتاكاً. وأرغب في النهاية أن أوضح بأن تعليقي هنا في هذا المقال لا يخص شخص السيد يان ياب دو راوتر_الذي أحمل له كل التقدير والاحترام_ بقدر ما يخص بعضا من أفكاره، وكثيرا جدا جدا من العقيدة السياسية السخيفة لحزب "الحرية" المتطرف.