بدأت اللغة الفرنسية، منذ التوقيع على عهد الحماية، في إعادة كتابة مقاطع طويلة عن الهُوِّية المغربية حتى كادت أن تصيب في مقتل كل ما أُنتج ورُوِّج باللغة العربية عن المغاربة منذ قرون. تفطَّن المخزن إلى ذلك الخطر الدَّاهِم فأسس أيديولوجية المقاومة المسلحة المبنية على الثأر للدِّين و، بالاستتباع، لِلُّغة العربية. كان ولابد من صوت السلاح لمواجهة الفرنسيين الذين غاصوا في أعماق الثقافة الأمازيغية-المحلية. نتيجة كل ذلك هو انتباه الأمازيغ إلى أن هوِّيتهم هي شيء آخر غير ما سوَّق له المخزن وعلمائه، فانطلقت الصحوة الأمازيغية المُعاصرة. اكتشف الأمازيغ، إذن، أن هُوِّيتهم مُمَزقة بين ثقافتين دخيلتين: الثقافة العربية-الإسلامية والثقافة الفرنسية-الغربية. والآن، والحالة هذه، ما العمل بالنسبة لَهُم؟ لو سايَرُوا منطق اليُسر، أي منطق الاقتصاد، لقاموا، بدون أدنى تردُّد، بدفع ثقافتهم للانصهار في الحضارة الغربية التي انتشرت في جُلِّ أنحاء العالم، إذْ واضحٌ العلاقة بين اعتناق الحضارة الغربية وتطوُّر الإنسان والعمران. لكن المنطق الاقتصادي ليس هو الحاسم في هذه المسألة، ولذلك هذه القفزة غير واردة، إذْ المطلوب هو الجواب على السؤال التالي: كيف الانفلات من الفخِّ الذي وَقعَت فيه الأمازيغية وباتت فيه وعاءً للثقافة العربية-الإسلامية ووسيلة لخدمة أهدافها؟ هذا هو المشكل وهو عويص لأنه قديم دام لقرون. إذا لم يتم التخلص منه فلَنْ يُجدي أن تتحدث أغلبية المغاربة بالأمازيغية، ولن يُجدي انتشار حرف التِّفِناغ حتى ولَوْ شمل كل القطاعات. بل، بالعكس، سيؤدي ذلك إلى القضاء التام على المضمون الهُوِّياتي للثقافة الامازيغية وعلى الأمل في تحديثه وبالتالي جعل الإنسان الأمازيغي مُلحق لكل ما هو عربي-إسلامي حتى وإنْ كان لا يُتقن سوى لغته الأم وحرفه الاصيل. الدعوة الآن هي إلى تقوية الهُوِّية الأمازيغية بأي لُغةٍ كانت وليس تقوية اللغة الأمازيغية بأيِّ مضمون هُوِّياتي كان. هذه الدعوة مُلحة لأسباب ثقافية وسياسية، إذْ ما المنفعة إنْ توصلنا في الأخير إلى إنسان يتحدث ويكتب الأمازيغية بطلاقة ولكن مضمون ثقافته هو بالكامل عربي-إسلامي؟ هذا الإنسان لم يَعُد أمازيغيا، بل أصبح إنساناً عربياً-إسلامياً ناطقاً بالأمازيغية. وذاك هو المَسْخُ الهُوِّياتي الذي جرى ويجري به العمل في حق الأمازيغ، وقد ضرب أشواطا عملاقة، بدليل أن هناك كثير من المغاربة يُقرُّون بأصولهم الأمازيغية لكن يعتبرون أنفسهم عرب-مسلمين. لتفادي الأسوأ، يجب الانتباه إلى أن التشبُّث بالهوِّية الامازيغية لا يعني صُنع لُغة معيارية واستعمال حرف التِّفِناغ، بل الأمر أكبر من ذلك بكثير، أيْ يعني التشبث بالثقافة والخصوصية والأصالة والانتماء، التقريب بين البنيات الأمازيغية الثلاث الكبرى بالمغرب: الريفية التَّمازيغت والسُّوسية، الوفاء لتراث عظيم لايزال في وضع هش وخطير و، أخيرا، الانضمام إلى مجموعة بشرية أمازيغية عالمية هي السَّنَد والحِمَى وتنتشر غالبيتها في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل. المأمول، والغرض الرئيسي من هذا الاختيار السياسي، هو: أولاً، تكريس وتركيز التمييز بين الهوِّية الأمازيغية والهوِّية العربية-الإسلامية وذلك بالاستمرار في حشد الوعي لدى الأمازيغ بأن هُوِّيتهم تختلف جذريا عن الهوِّية العربية-الإسلامية. النتيجة المرجُوَّة هي تفادي طمْس الهوية الأمازيغية، وهذا دور الحركة الأمازيغية إذْ لم تقُم إلاَّ لمحاربة ذلك الطمس. ثانيا، عقلنة اندماج الهُوِّية الأمازيغية في الثقافة الغربية. عدم التحكُّم في ذلك سوف يُعيد إنتاج نفس المشكل الذي حاولنا معالجته في النقطة السابقة. لكن، بالمقابل، إذا لم تُخْلِص الدولة نِيَّتها وتعمل بجدٍّ في إنجاح مطلب تكريس وتركيز التمييز بين ما هو أمازيغي وما هو عربي-إسلامي، ذلك المطلب الدستوري المُستنتج من التأويل الديمقراطي لدستور 2011، فالأفضل والأوْلى للأمازيغ الانصهار التَّام في الحضارة الغربية لأنها المُستقبل والمُتحكمة بزمام العلم والاقتصاد الحديث. هذا منطق له ما يُبرِّره في الظروف الراهنة. وعلى الدولة أن تتحمَّل التكلفة الاقتصادية لهذه العملية وإلاَّ سوف تواجه مسؤولية عدم تدخلها في الوقت المناسب لتفادي ذهاب الأمازيغية في طريق سيُغيِّر، على المدَى الطويل، كل ملامح الدولة المغربية الحالية