انتهيت صباح يوم 22 فبراير المنصرم من قراءة رواية "الزانية" لباولو كويلو، وهي الرواية الثانية التي أقرأها له بعد الرائعة العالمية "الخيميائي". وبالرغم من أن رواية "الخيميائي" استمتعت بها، وحفزتني كثيرا على بناء أسطورتي الشخصية، كما ينصح بها الكاتب، ويعلل ذلك (بأن الإنسان الذي ليس له أسطورة شخصية (الطموح الكبير) لا يستحق أن يكون إنسانا)، وأنا في مراحل تحقيق أسطورتي الشخصية بعدما شيدتها ذهنيا فقط، صادفتني وقائع وأحداث وحقائق اجتماعية ما زالت موشومة في ذاكرتي. ورواية "الزانية" خدشت هذا الوشم، وأحدث مكانه جرحا نرجيسيا غائرا يستحيل أن ينسى، ولا يمكن مقاومة ألمه إلا بالكتابة التي أتناولها كمخدر يخفف ألم الذاكرة. وفجأة، وجدت نفسي أسترد تفاصيل إحدى المقابلات التي أجريتها منذ سنتين مع إحدى المبحوثات أثناء إنجاز لبحث حول الحياة الجنسية عند المغاربة، ونشرته بعنوان "الجنس عند العزاب المغاربة". وبطلة الرواية تتقاطع في العديد من الأحداث مع واقع المبحوثة، وهذا التقاطع هو الذي دفعني إلى كتابة هذه الأسطر التي لا أعتبرها "قراءة في الزانية" ولا "شهادة اعتراف" أو بالأحرى فضح لحياة المبحوثة التي التزمنا معها وفق ميثاق الشرف الذي يلزم كل باحث سوسيولوجي بالحفاظ على مبدأ السرية، لأن الغاية الكبرى هي خدمة البحث العلمي، وهذه الأخيرة هي التي أقنعت المبحوثة في الإدلاء بكل تلك الحقائق. لذلك، نحن هنا سنحافظ على مبدأ إخفاء هوية المبحوثة، ولكن هذا لا يمنعنا من الاستفادة من المعلومات التي إفادتنا بها، خاصة أن هذه المعطيات لم أوظفها في نتائج بحثي، لأن طبيعة الإشكالية تفرض انتقاء الوقائع التي تخدمها، ولهذا كنت دائما أتساءل ماذا سأفعل بكل هذا الكم الهائل من المعلومات التي جمعتها على هامش البحث، والآن يبدو أني وجدت جوابا لسؤالي على الأقل هذا الجواب يحقق الحد الأدنى من المصداقية في اعتقادي، والمتمثل في توظيف هذه المعلومات في كتابات الرأي، أو إبداعات من صنف أدبي كرواية والقصة...، وذلك حتى لا تضيع أو تسقط من خزان الذاكرة مع مرور الزمن، علما أن جمعها كلفنا مجهودا ذهنيا وعضليا وماديا...، لهذا سأوظف بعض هذه المعلومات من تلك المقابلة والتي ما زالت راسخة في ذهني (بالإشارة والعبارة)، وأقارنها مع ثقافة بطلة "الزانية". قبل الشروع في المقارنة بين واقع المبحوثة (الذي تنتمي إلى الثقافة الشرقية ونحن واعون أن الثقافة الشرقية ليست ثقافة خالصة وإنما داخلها توجد ثقافات، ونستعمل هذا التوصيف حتى ييسر لنا المقارنة في أوجهها العامة، تمام كما يقارن المحللون السياسيون والاقتصاديون بين ما يسمونه بدول العالم الثالث والدول المتقدمة). ونشير إلى أنني سأسمي المبحوثة باسم "مريم وهو اسم مستعار"؛ فيما سنحتفظ بالاسم الأصلي لبطلة الزانية "ليندا". علاقة حب ثلاثية الأبعاد عموما، إن الرجل هو الذي تكون له علاقة حب ثلاثية الأبعاد، بمعنى قد يكون متزوج وله عشيقة، وهذه الطبيعية الثلاثية في الحب تتسامح معها ثقافتنا السائدة (البطريركية) وتارة تدافع عنها وتبجلها تحت ذريعة الرجولة أو الفحولة، وهذا يبدو واضحا في المثال التالي: "قد تجد رجلا في حياته الجنسية لم يتعدّ تجربتين، وإذا سألته يظهر لك أنه قام بغزوات جنسي، ويحدثك على التي فعلها على شواطئ البحار، أو على جوانب الوديان وفي الغابات أثناء مراحله التعليمية، لكن بعد عمله سيحدثك عن دور الدعارة وعلى أشكال وأنواع العاملات الجنسيات، فضلا عن بطولات الفنادق والشقاق المفروشة...، وفي المقابل إذا سألت فتاة عن تجاربها الجنسية، وحتى إن كانت لها ألف تجربة ستنكر كل التجارب وستدعي العفة بمعناها الديني المحض. وهذا النكران يبرره الوصم الاجتماعي الذي سيلصق بها كل النعوت القذرة، (لا أتحدث هنا عن الاعترافات التي يدلي بها بعض الصديقات لأصدقائهم، بعدما يثقوا فيهم ويعلموا أن هؤلاء يحترمون حياتهن وحرياتهن الخاصة، لأن هذه حالات نادرة جدا في اعتقادي. إذن عادي وطبيعي أن يكون الحب ذو الأبعاد الثلاثية من نصيب الرجال (على الأقل في ثقافتنا العربية الإسلامية)، لكن أن تقتحم المرأة هذه التجربة ثلاثية الأبعاد في الحب، ألطف مصطلح يمكن أن نصفها به هو "المغامرة". والمغامرة هي النقطة الأولى التي تتقاطع فيها "ليندا" و"مريم". ليندا صحافية، ولها زوج وسيم متيم بها وطفلان جميلان، تثير رغبة الرجال وحسد النساء، لكن على الرغم من هذا يلفها ضجر لا يوصف، وتشعر بأنها على شفير الهاوية، وسط هذا الضياع والضجيج يعترض حياتها حبيبها السابق وقد أصبح سياسيا مرموقا، فتخوض معه تجربة حميمية وغريبة، بحيث كانت تستغل وظيفتها كصحافية لإجراء مقابلة معه كسياسي بمناسبة الانتخابات المقبلة التي هي على الأبواب، وكذا من أجل معرفة برنامج حزبه وموقفه من المشاركة في الحكومة المقبلة. في المقابلة الأولى حاول كل منهما أن يتجاهل الآخر، تشبث هو بكاريزما السياسي، وحاولت هي التشبث بصلابة الصحافية التي تفرضها المهنة، وأثناء المقابلة استسلما معا للعنة الذاكرة، ومعها أعلن الجسد تمرده على كل الأخلاق والضوابط المقيدة لحريته، بدأت المداعبات والقبلات ثم الآهات، فجر كنوز أنوثتها، وكشفت على معادن رجولته، وبدأت مص قضيبه، قذف بسرعة في فمها، فاستشعرت لذة مائه كما تستشعر الأراضي البور لذة ماء السماء. هكذا أصبح يتحول اللقاء المهني المفترض (والذي يجنبها عين المراقب وأصبع الاتهام) إلى لقاء حميمي بين عاشقين فيغرقوا معا في القبلات وممارسات الحب وتفجير كنوز بعضهما. مريم أم لثلاث بنات، وموظفة في إحدى الجامعات المغربية، زوجها كان رفيقا لها منذ الأيام الجامعية، وقبله كانت في علاقة عاطفية مع رفيقه (صديق زوجها الحالي) أيام كانوا طلبة بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، ظهر المهراز، وهو الذي فض بكارتها وذلك بإرادة وإلحاح شديد منها، لأنها كانت تؤمن بأن شرفها لا يوجد بين فخديها وإنما يكمن شرفها حقا في صدق أقوالها وأفعالها، لكن فشلت هذه العلاقة العاطفية، ودخلت مريم في علاقة عاطفية مع صديق حبيبها (زوجها الحالي) والتي تكللت بالزواج، تقول مريم: بعد ما يزيد عن عقد من الزمن قضته مع زوجها داخل مؤسسة الزواج أصبح زوجها يتعامل ببرودة معها، بل مرة شتمها بقوله: "أنا سترتك" (هذه الكلمة لها مدلول عميق في الثقافة المغربية، بحيث إن الفتاة إذا فقدت بكارتها كأنها أصبحت "سلعة " فاسدة غير قابلة للزواج، أو لا تتوفر فيها الشروط الأخلاقية التي تمكنها من الولوج إلى القفص الذهبي/ مؤسسة الزواج). لكي تخفف مريم من هذه المعاناة كانت تحكي بعض التفاصيل لصديقها، تطورت هذه العلاقة من الصداقة إلى الحب بعد مرور الزمان، لكن كانت لا تجد المكان المناسب للممارسة الحب مع صديقه الجديد، لأن ظروف العمل ومسؤولية الأسرة لا يسمحان لها بذلك، وخاصة أن عملها قريب إلى منزلها- لذلك لا تجد حجة دامغة للابتعاد أو التأخر في العمل وكانت تكتفي بالجنس الإلكتروني والهاتفي مع حبيبها- فجأة القدر جاد عليها بفكرة تعطيها أكبر الفرص لممارسة الحب، قررت إتمام دراستها، تسجلت في سلك الدكتوراه، وهكذا أصبحت مطالبة بالحضور لندوات وللقاءات علمية في مدن أخرى، كما مكانها ذلك أن تبرر سفرها بالنزول إلى الميدان لإجراء مقابلات مع المبحثين، وهكذا أصبح لها الكثير من الوقت لتعيش بطولاتها الجنسية هي وحبيبها الذي كانا يشغل وظيفة أستاذ. وهكذا كانت تعيش مغامراتها الجنسية تارة في الفنادق، وتارة في الشقق المفروشة... بعدما قضت عدة أشهر تستمني على صوته في الهاتف. الجنس الممنوع عن الزوج والمباح للحبيب الحب ثلاثي الأبعاد (والذي يجمع ثلاثة أطراف في علاقة واحدة بغض النظر عن طبيعتها)، كما رأينا في المحور السابق، تجربة حميمية غريبة شعارها المغامرة. وفي هذا المحور ستزداد غرابتنا مع هذه التجارب، لأن هذه التجارب تقلب المعادلات المألوفة. ليندا لم تحدثنا في الرواية عن حياتها الجنسية مع زوجها، لكنها فصلت فيها مع حبيبها، وقبلت أن تمارس الجنس الشرجي معه دون اعتراض، وكان ذلك في اللقاء الثاني الذي رتبه في أحد الفنادق، وهما يتبادلان المداعبات والقبلات حتى تفاجأت ليندا أن "جاكوب"(اسم حبيبها في الرواية) يرميها على السرير بعدما انتصب قضيبه، وإذا بها تشعر بأنه يجلها من "الشرج"، وكانت لأول مرة تجرب هذا النوع من الممارسة، فاختلط شعورها باللذة والألم، لكنها أحبتها، فهي كل مرة تكتشف دروب أنوثتها- هذه الدروب الذي لم يكتشفها زوجها-. وهذا النوع من الجنس (الجنس الشرجي) كانت ترفضه مريم رفضا قاطعا مع زوجها ولم يفلح في ذلك وبمختلف الوسائل والاستراتيجيات التي جربها معها، والتي تتجلى تارة في توسل وتارة بالتهديد والضرب والسب، لكن كانت تمارس هذا النوع مع حبيبها عن طيب خاطر، بل كانت تفضله، لأنه يشعرها باقتحامه لها، ويجعلها تحته كفرسة مستسلمة لقوته ومهاجمته وعنفه كما كانت تفعل تماما ليندا، فالسياسي كان ساديا في ممارسته الجنسية. لما استفسرت مريم عن حبها لممارسة الجنس الشرجي مع حبيبها: أخبرتني أنها لم تجربه من قبل، ودائما كان زوجها يطلبه منها وكانت ترفض لحيائها وخوفها، لكن بعدما أصبحت علاقتهما باردة في الفراش زادت حدة رفضها، بحيث تقول: أنها كانت تنام معه أكثر من مرة بملابس العمل، وتكتفي فقط بنزع حذائها، وكانت تستجيب لممارسته مرة في الشهر أو مرتين في أحسن الأول. تضيف أن زوجها في إحدى الليالي ألح على ممارسة الجنس الشرجي، فرفضت، فقال لها: بما أنك ترفض هذا النوع من الممارسة الجنسية، فهذا يعني أنه لك "صاحب تمارس معه من الشرج"، تقول تفاجأت من كلامه، وكأن لا مشكلة له، تقول مريم: فكانت تلك الكلمات بمثابة تنبيه وإعطاء الضوء الأخضر لي لممارسة الجنس من الدبر مع عشيقي (علما لو كانت امرأة أخرى دوني لنزلت عليها هذه الكلمات كالصاعقة، ومن يدري قد تسبب لها جلطة في الدماغ أو تنتحر أو تقتله أو تطلقه في أحسن الأحوال، لأنه طعنها شرفها، والمرأة في مجتمعنا قد تتحمل كل الطعنات إلا هذه الطعنة، لكن لا بأس ما دمت أعيش الحب مع حبيبي). وبما أني أحب عاشقي وأكره زوجي، لذلك كنت أحب هذه الممارسة مع حبيبي ولا أبالي أبدا بما يقوله زوجي الصوري. ممارسة الحب مع الحبيب ليست خيانة زوجية الخيانة الزوجية تفيد، في مدلولها العام، ممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج، سواء قام بهذا الفعل الرجل أو المرأة. وهذا التحديد يتفق عليه الوعي الجمعي في مجتمعاتنا العربية الإسلامية أو مجتمعات شمال إفريقيا كما يحلو أن يصفها إخواننا الأمازيغ (وأنا شخصيا لا مشكلة عندي أن أسمى بالعربي أو الأمازيغي أو الإفريقي، ولا ننكر أبدا أن الهوية الأمازيغية هي بالفعل والقوة مكون أساسي من مكونات مجتمعنا)، والفكرة تستمد روحها من الدين الإسلامي الذي يعتقد به أغلبية سكان هذه المجتمعات سالفة الذكر. ومريم أحد أفراد هذه المجتمعات، لكن لا تعتبر أبدا أن ما تقوم به مع حبيبها خيانة زوجية، بل ممارسة أخلاقية تستمد قوتها ومرجعيتها من مبدأ الرضى الذي يعتبر مبدأ أساسي في المرجعية الحقوقية (حقوق الإنسان)، لذلك هي تمارس الحب بقناعة، وهي واعية تماما بأن الدين الإسلامي يحرم هذه العلاقة. كما تعي بأن القانون الجنائي المغربي يجرمها، فضلا عن وعيها بأن المجتمع يمنعها بأعرافه البالية وتقاليده المعطوبة كما تنعته، وبعد تنهده أضافت: حبذا لو كان الزواج هو أيضا بالتعاقد كما صارت عليه الوظيفة العمومية في التدريس. لذلك هي لا ترى أن هذا الفعل يمس بكرامتها وإخلاصها، وتقول: أبدا لم يؤنبها ضميرها. وعكس هذا حدث لليندا فقد تحول ضميرها إلى جلادها، وقررت أن تصارح زوجها بما جرى، لكن قبل ذلك أقنعت نفسها بأن تمارس الجنس مع "جاكوب" السياسي المرموق للمرة الأخيرة، وجعلت هذا القرار كشرط "لتوبتها" أو لفراقها مع صديقها الحميمي. وبعدما حسمت هذا القرار مع نفسها اتصلت بالسكرتيرة وطلبت منها أن تخبر رئيسها بأنها ستكون عنده بعد ثلاث ساعات. كانت ملتزمة بالوقت، استقبلها "جاكوب" في مكتبه أقفل الباب، بدأت كلمات الغزل بينهما: "اشتقت اليك" استمرت المداعبة إلى أن تقول ليندا: "ناديته باسمه، قائلة له: إنني أريده داخلي"، ولك أن تفعل ما تريده"، تضيف مفصلة ما حدث: "جذبني من كتفي بشدة، وهزني مثل متوحش. أبعد بين ساقي لكي يلجني أعمق، اشتدت الوتيرة، لكنني أمرته ألا يقذف عندها، احتجت إلى المزيد، والمزيد والمزيد. جعلني على الأرض، على يدي وركبتي، مثل كلبة، ضربني، وولجني مرة أخرى فيما حركت خصري بعنف. عرفت من أنينه المخنوق أنه كان سيبلغ الذروة، أنه لم يعد قادرا على التحكم بنفسه. جعلته ينسحب مني، استدرت، وطلبت إليه أن يدخله مجددا وهو ينظر إلى عيني ويتفوه بالكلمات البذيئة التي أحببنا تبادلها عندما مارسنا الحب. تفوهت بأفحش ما يمكن لامرأة التفوه به لرجل، ناداني مرددا اسمي بنعومة، يتوسل أن أقول له إنني أحبه؛ لكنني كنت قد تفوهت بكل دنس وطلبت إليه أن يعاملني معاملة المومس والغريبة ويستغلني استغلال الجارية والإنسانة التي لا تستحق الاحترام" (ص 271). في الختام، نؤكد أننا واعون بأن هذه المقارنة بين ليندا ومريم غير صائبة، سواء من الناحية المنهجية أم من الناحية الثقافية بالمعنى الأنتربولوجي لمفهوم الثقافة (مجموع التقاليد والأعراف والعقائد والقوانين...الذي يتشربها الفرد ليصبح عضوا فعالا في مجتمعه)، خاصة أن مريم شخصية واقعية تضفي المعنى على أفعالها وفق قناعاته الفكرية وتشبعها بقيم حقوق الانسان، في حين أن ليندا هي شخصية افتراضية كما هي باقي جميع الشخصيات الروائية. ونعرف أيضا أن مريم تنتمي إلى مجتمع له خصوصية متباينة تماما مع خصوصية المجتمع التي تنتمي إليه ليندا، سواء على المستوى الحقوقي أو العقائدي أو التعليمي أو طبيعة النظام السياسي بكامله؛ لكن هذا لا ينفي وجود جسور وأفكار تخترق الثقافتين بخصوصياتهما. كما لا يمنع من وضع هذه المقارنة لنكشف بها واقعنا أو بعض من ملامحه التي تستعجل التدخل لإصلاحها، وفق رؤية أو مشروع مجتمعي شامل وواضح المعالم.