في حوار مع الفنان المصري نور الشريف قبل وفاته بشهور معدودات، سألته صحافية عن أسباب النهضة الفنية والثقافية التي عرفتها مصر في سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فأجابها بأنها ضربة حظ، وحكى لها الواقعة التالية: في مطلع الستينيات كان الرئيس جمال عبد الناصر يزور المغرب، بدعوة رسمية من الملك الراحل محمد الخامس، الذي خصص له استقبالا جماهيريا حاشدا. وعند مرور الموكب بأحد الشوارع الرئيسة، اقترب أحد المواطنين المغاربة من جمال عبد الناصر، وعندما سلم عليه، طلب منه أن يبلغ تحياته إلى الفنان الكوميدي إسماعيل يس. من هنا أدرك عبد الناصر الدور الإشعاعي للفنون، وخاصة السينما التي جعلت هذا المواطن في المغرب الأقصى يعرف إسماعيل يس، قبل أن يتعرف على رئيس مصر، فقرر عند عودته أن يهتم بدعم الثقافة وتشجيع الفنون، كقوة ناعمة للهيمنة الإشعاعية على الشعوب العربية. نعلم بالتجربة أن عملية التغيير لا تتحقق إلا بالتدريج وبالتدابير التثقيفية الهادفة، فالنموذج التنموي لا يمكن إنجازه بسهولة أو بقرار إداري يتخذ بين ليلة وضحاها، لأنه صيرورة جدلية بالغة التعقيد؛ فمنذ استقلال المغرب تعددت النماذج التنموية التي اهتمت جميعها بالتنمية الصلبة أو القوية، التي لم يخطط أصحابها للإستراتيجيات بعيدة المدى، بل لم تكن في أحسن أحوالها تتجاوز الرهان على المدى القريب، كالتصميمات الرباعية والخماسية في فترة الستينيات. لكن في السنوات الأخيرة تراجعت هندسة التخطيط للبرامج التنموية، وصار الاستماع إلى إملاءات ونصائح البنك الدولي من باب "كم حاجة قضيناها بتركها"، مع إضافة تنقيحات تجميلية وتحيينية لمواكبة السياق المحلي، في غفلة عن القوة الناعمة التي تفتقر إليها كل المشاريع التنموية السابقة. لكن مهما كانت الأهداف العليا للتنمية، فإنها تبقى في أمس الحاجة إلى مقوم تكميلي لازم لها، يتمثل في دعم "القوة الناعمة" وتعضيدها. لن أتطرق في هذا المدخل إلى البحث عن القوة المباشرة أو الخشنة أو المادية؛ أو ما يسمى عندنا النموذج التنموي؛ وذلك بالدفع مسبقا بعدم الاختصاص، لأن مثل هذه الموضوعات تتطلب في رأيي مشاركة مختصين في مجالات متعددة، من اقتصاديين وسياسيين وسوسيولوجيين وفاعلين سياسيين، أو من الباحثين العاملين في خلايا التفكير المختصة، أو ما يعرف عند الدارسين الأنجلو سكسونيين بعلب البحث أو التينك التانك Think Tank؛ لهذا سأركز على مفهوم القوة الناعمة باعتبارها المقوم الثاني لنجاح كل مسعى نموذجي تنموي. يمكن تعريف مصطلح القوة الناعمة، الذي وضعه الأمريكي جوزيف ناي، باعتباره القدرة على التأثير في الآخرين عن طريق الترغيب والاستمالة، وبأنه "قدرة أمة معينة على التأثير في أمم أخرى؛ استنادا إلى جاذبية نظامها الاجتماعي والثقافي ومنظومة قيمها ومؤسساتها، بدل الاعتماد على الإكراه أو التهديد". لقد استشعر جوزيف ناي أهمية القوة "الناعمة" عندما كان في مهمة عسكرية في العراق (وأحس بأن حرب الأسابيع الأربعة التي استطاعت أن تسقط "طاغية" كانت باهظة التكاليف لقوتنا الناعمة، أي في القدرة على اجتذاب آخرين إلى جانبنا). وتعود الأصول المرجعية للقوة الناعمة إلى الدراسات السوسيولوجية التي قام بها الفيلسوف ماكس فيبر لظاهرة القوة أو قوة الشخصية الكاريزمية التي تستعمل القوة غير المباشرة. وترتبط القوة الناعمة في تفعيلها بسلطة أصحاب القرار أو الدولة التي تمتلك الإمكانات المادية لحشد وتعبئة الوسائل وتحديد الأهداف؛ وذلك بتوظيف التأثير الرمزي الذي لا يعتمد على القوة الخشنة أو المادية وحدها، بل على القوة الناعمة أو غير المادية، وعلى الجذب الذي غالبا ما يؤدي إلى إذعان الآخرين. وتشتمل غواية القوة الناعمة على مختلف مكونات الثقافة، كعدد المتاحف والمهرجانات الدولية والزائرين لها، ودور المنظومة التعليمية وجودتها وعدد مراكز التفكير والخدمات الحكومية، وتعبئة الإعلام وآليات التواصل على الإنترنت، وروح الابتكار والريادة في قطاع الأعمال. كما ترادف القوة الناعمة كذلك مفهوم الرأسمال الرمزي، كالفنون، وخاصة السينما والمسرح والدراما التلفزيونية، أو ما يعرف بالثقافة العليا، كالأدب والفن، والثقافة الشعبية التي تسعى إلى إمتاع الجماهير العريضة. يتميز المغرب بغنى تنوعه الثقافي وتعدد مكوناته المجتمعية، وهو ما جعله تاريخيا يتفاعل مع روافده المتعددة الإفريقية والمتوسطية والعربية. في هذا السياق الجيو استراتيجي، يمتلك المغرب طاقات واعدة لخدمة تواصله الفاعل وعلاقته الخارجية والإقليمية والعالمية، لكن لم يتم إلى حد الآن الاستغلال العقلاني لهذه الإمكانات بهدف سن سياسة رشيدة تؤدي إلى حشد وانطلاق القوة الناعمة نحو التوجه إلى الآخر. ترتكز القوة الناعمة على مقومات رباعية الأبعاد، هي الموقع والتاريخ واللغة والثقافة. والمغرب يتميز بموقعه وسط العالم، يحده شمالا البحر الأبيض المتوسط الذي يعتبره الباحث بول بالطا "منذ عهود سحيقة، منطقة مواجهات وفي الوقت نفسه منطقة مبادلات"، حيث امتزجت الحضارتان المسيحية والإسلامية؛ وفي الجانب الغربي يطل على المحيط الأطلسي، الجامع للقارتين الأمريكيتين. لقد كانت علاقة المغرب بالأجنبي علاقة مزدوجة على شكل ذهاب وإياب؛ وذلك عندما اتجه المغاربة صوب الأندلس التي أسسوا فيها دعائم متينة للقوة الناعمة على المستوى المتوسطي، تمثلت في جعلها حاضرة التعدد الثقافي والعيش المشترك بين الأديان المختلفة، طيلة ثمانية قرون. كما أن المغرب بعد سقوط الأندلس سيتحول إلى الحصن الواقي في الغرب الإسلامي ضد التغلغل الاستعماري. وتعتبر موقعة وادي المخازن المعركة الكبرى التي انتصر فيها المغاربة في حرب كونية وصليبية شارك فيها البرتغاليون والمسيحيون بمساعدة عسكرية من الإسبان والطليان والألمان، وأربعة آلاف من الجنود التابعين لسلطة البابوية؛ لكن بالرغم من أبعادها الدينية والدولية فإنها لم تحظ بالصيت الكبير الذي تستحقه بالمقارنة مع الصدى الذي عرفته معركة "حطين" في الشرق، التي قادها صلاح الدين الأيوبي، وذاع خبرها بفضل العمل السينمائي الشهير الذي قدمه المخرج المصري الكبير يوسف شاهين؛ بينما معركة وادي المخازن لم يأت ذكرها إلا محليا، من خلال بعض القصائد الحماسية المتفرقة في ديوان الشعر المغربي، ومسرحية شعرية يتيمة من نظم الشاعر المغربي الدكتور حسن طريبق عافاه الله. وللتذكير فإن اليهود المغاربة خصصوا اليوم الثاني من شهر سبتمبر كيوم للاحتفال بانهزام البرتغاليين، لأن هذه المعركة أنقذتهم من مذبحة رهيبة، كان من المقرر أن يقوم بها دون سبستيان، الملك البرتغالي، الذي كان قد قطع على نفسه عهدا "إذا انتصر وفتح المغرب سيذبح بالسكين كل يهودي لا يقبل التنصير". وكان اليهود يشبهون هذه المعركة بعيد "بوريم"، لأنهم كانوا يخافون من عودة محاكم التفتيش البرتغالية إلى المغرب. يعتبر كتاب "النبوغ المغربي" للمرحوم عبد الله كنون أول من استشعر أهمية القوة الناعمة كرد فعل ضد الهيمنة المشرقية على الثقافة المغربية، والرؤية الاستعمارية الدونية التي كانت تنكر وجود الأدب المغربي. ولهذا السبب تصدى الأستاذ عبد الله كنون من خلال كتابه الرائد للرد على الهجمات المشرقية والاستشراقية التي كانت تروج لها صحيفة "السعادة" الناطقة في المغرب بلسان السلطات الاستعمارية. وتم منع كتاب "النبوغ المغربي" الذي طبع بتطوان من الدخول إلى المنطقة الفرنسية بالمغرب. وكان كل من يخالف ذلك يعاقب بمقتضى القانون الاستعماري. لقد تميز مسار المثقفين المغاربة منذ الاستقلال بروح الإيثار السخي والاعتماد على الإمكانات الذاتية؛ لذلك نجد أن مثقفي المغرب، الذين كانوا في مجملهم ينتمون إلى اليسار، رغم شهرتهم على المستوى العربي والدولي فإن ذلك يرجع إلى تألقهم الفردي واعتمادهم على قدراتهم العصامية؛ ففي الإنتاج الفكري أو الإبداعي (الرواية والشعر) والنقدي نجدهم قد برزوا في هذه المجالات، لأنها لا تتطلب منهم سوى وجود منتوج ثقافي ودار للنشر. وكان الوصول إلى النشر في ذلك الزمن العصيب دونه خرط القتاد؛ بينما نجد حضورهم ظل خافتا في ميادين الأنشطة الجماعية، كالمسرح والسينما والأوبرا التي تتطلب تمويلا ضخما يليق بالعروض الفنية الجماهيرية. وكان عميد المسرح المغربي الطيب الصديقي، الذي عرف شهرة عربية واسعة، خصوصا في لبنان، بإمكانه أن يؤسس مدرسة عربية في المسرح، تنتشر في البلدان العربية كقوة لينة تتمتع بالقبول الحسن، لو حظيت بالدعم المادي. وحتى بالنسبة للأغنية المغربية، نستحضر في هذا السياق مبادرة الاختراق الناعمة التي قام بها ثلة من الفنانين المغاربة الذين هاجروا إلى مصر بإمكانيات شبه معدومة مع مطلع عقد الستينيات من القرن الماضي. وكان يترأس هذه الكوكبة الملحن الكبير عبد السلام عامر، وعبد الرحيم السقاط، وعبد الوهاب الدكالي، وعبد الهادي بلخياط، وحسن المفتي، إذ وجدوا بين الأوساط الفنية المصرية ترحيبا بنبوغ الأغنية المغربية، واضطروا أن يعودوا للمغرب نتيجة عرقلة السلطات المغربية لمقامهم آنذاك، لتواجدهم في مصر الناصرية، ولانعدام وجود التمويل كدعم لهم من لدن الدولة المغربية، بعد قضائهم فترة محدودة كانت حافلة بالحراك الفني، حققوا فيها إنجازات متميزة داخل الوسط الفني بمصر. لكن بالرغم من صدقية حجة التمويل لاستنهاض القوة الناعمة وتنشيطها، فإننا نلاحظ أن البعض صار يتعلل بهذه الحجة ويستغلها أحيانا للتستر على ضعفه الفني وعجزه عن الخلق الإبداعي، خاصة في المجال السينمائي؛ فمنذ رحيل الفنانين الرواد، لم يتم إلى حد الآن استخلافهم. وعرفت الساحة الفنية فقرا شديدا في جميع أشكال التعبير الفنية (الغناء المسرح السينما) وضمورا معتلا وفراغا لم يتم إلى حد الآن تعويضه. ربما يفتقر الجيل الجديد إلى الموارد الفنية، من معاهد عليا لتدريس الفنون المشهدية والبصرية؛ فلا وجود إلى حد الآن لكلية عليا معتمدة للدراسات السينمائية كما هو الشأن في الإزيك E.s.e.c أو المدرسة العليا للدراسات السينمائية بباريس، التي تدرس فيها جميع الاختصاصات السينمائية. وجل الخريجين القدماء في المغرب هم من مدارس السينما بباريس أو من الاتحاد السوفياتي، والذين صاروا يعدون اليوم على رؤوس الأصابع، بعد أن قدموا الشيء الكثير للسينما المغربية. ولم توجد إلى حد الآن مدرسة عليا لتخريج السينمائيين المغاربة في جل أقسام وشعب العمل السينمائي. ومن أكبر الإكراهات التي تعترض القوة الناعمة المغربية وصلابتها داخليا وذيوعها خارج الحدود نجد معضلة آلية اللهجة المغربية وانعكاساتها السلبية على الإنتاجات الإبداعية. لقد تحولت اللهجة المحلية المستعملة في مدينة الدارالبيضاء ونواحيها إلى لهجة معيارية كاسحة للتخاطب والاستعمال التداولي عند كثير من المتخاطبين المغاربة، تنافس وتقصي باقي اللهجات المحلية، منذ نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي؛ ونتيجة لتوظيفها لوسائط التواصل والإعلام الذي جعلها تتحول إلى لهجة فوقية واصطناعية ومركزية، تقوم بإقصاء باقي اللهجات التي لها تاريخ حافل في المدن والعواصم التاريخية الكبرى، كمراكش وفاس وتطوان أو الصويرة أو وجدة أو شفشاون. ومن الإكراهات التي اقترنت بهذه اللهجة أن المبدعين المغاربة لم يعملوا على تطويعها وتفصيحها أو ترقيتها لكي تقترب من اللغة المشتركةFranca Lingua في مجالي المسرح والغناء، واقتصر دورها على الاستعمال الفلكلوري المحلي؛ وذلك لأنها لم تعتمد في تطورها على نهج تطبيق مبدأ "العدالة اللهجية" التي لن تتحقق إلا باعتماد الاقتراض التعادلي بين اللهجات من أجل تفصيحها؛ كما أن غياب شركات الإنتاج التي كانت في معظمها خليجية أو مشرقية حال دون ترويجها، لأن من يراقب تسيير هذه الشركات يتحكم في الذوق الفني الشائع. وفي الفترة الأخيرة، تحولت اللهجة الدارجة المغربية المشتركة إلى عائق أمام إشعاعها، إذ بقيت منغلقة على نفسها عبر توظيفها لآليات السلطة المركزية وأدوات الهيمنة حسب تعبير ألتوسير، التي سهلت ذيوعها وانتشارها وطنيا بواسطة عروض الكوميديا المحلية والأغاني الشعبية الملتصقة بجهة هذه اللهجة المحدودة، التي لم تستطع أن تقرب المسافات البعيدة بين هذه اللهجة المركزية واللهجات المغربية الأخرى. لقد بقيت هذه الكويني اللهجية Koiné مجرد لهجة محلية لم تستطع أن تمتلك جاذبية التلقي وأن تتخلص من خشونتها التي لا ترقى إلى توصيل الإبداعات الفنية الراقية لجموع المتلقين، وأن تكون لهجة مختلطة لم تستطع أن تحقق التأثير المتبادل مع اللهجات الأخرى. من هنا برزت معضلة التواصل باللهجة المغربية خارج مجالها المحلي الذي يعترض المبدعين المغاربة للتعبير بواسطتها؛ وذلك لن يتأتى إلا بترويضها إبداعيا وثقافيا وتفاعلها مع باقي اللهجات المغربية المجاورة. ولنا أمثلة تمرينية ونموذجية ناجحة، من خلال بعض التجارب المستحدثة أخيرا، كبداية للتطويع وتليين هذه اللهجة عبر دبلجة المسلسلات التلفيزيونية الأجنبية، التي صارت تستعمل لهجة مشتركة تجلب إليها المشاهدين من الجمهور الواسع. وتتمثل قيمة هذه المبادرات التجديدية على مستوى دبلجة المسلسلات التلفزيونية في أنها كسرت الاحتكار الذي كانت تمارسه في هذا الميدان دائما اللهجات التي كانت في معظمها خليجية، إذ حالت دون ترويج اللهجة المغربية؛ لأن من يراقب سلطة التحكم في هذه الشركات يتحكم عربيا في تنميط الذوق السائد. أما على المستوى الإبداعي فنجد أن بداية تألق اللهجة المغربية المشتركة صار يتجلى عبر الحوارات الأنيقة التي أومضت مؤخرا في بعض المسلسلات التي صارت تموسق اللهجة الشمالية المغربية بأخواتها من اللهجات الأخرى. وقد قدم مسلسلان في هذا المنحى، هما "بنات لالة منانة" و"سر المرجان"، واللذان تحولت فيهما الحوارات إلى ملتقى التواصل بين اللهجات المغربية المختلفة، وحتى أحيانا من دول مغاربية (تونس مثلا)، يتخاطبون في ما بينهم دون حاجز يذكر. وعرفت هذه المسلسلات على المستوى المحلي نجاحا باهرا وذروة في التلقي. وفي الفترة الأخيرة ظهرت في الساحة المشرقية تجارب مغربية شجاعة تنحو هذا المسار، باعتماد اللهجة المغربية عبر استعمال أغاني الملحون - في مصر تحديدا – من قبل أصوات عريقة في الطرب العربي، كالفنان عبدو شريف الذي قام بتجربة غنائيه جريئة لتوطين لهجة الملحون المغربي في الساحة المصرية، والتي تعتبر مدخلا واعدا لكي تستأنس الأذن المشرقية بالأنغام المغربية، كخطوة هادفة لتفعيل القوة الناعمة المغربية خارجيا، يجب تشجيعها في مجال الأغنية المغربية وباقي الفنون الشعبية . لقد أثر غياب رعاية الدولة للقوة الناعمة على طرائق الإبداع المغربي، الذي يتطلب رصد ميزانية ضخمة للشأن الثقافي، كما يفتقر مبدعوه إلى دعم مادي مناسب لتمويل الإنتاجات الفنية الكبرى؛ فالمسرح المغربي توجه في السنوات الأخيرة إلى نهج سلوك التقشف مكرها في الإنتاج المسرحي، وابتعد عن توظيف الفنون المجاورة المختلفة التي تصاحب الأداء المسرحي، كالموسيقى والرقص واللقطات السينمائية والفيديو، وعدم الاعتماد على الكاستينغ الضخم بدعوى الخصاص المادي. بينما نجد أن المسرح لكي يكون جزءا من المشروع القومي والمرآة العاكسة للتعبير عن القوة المغربية الذكية، يجب ألا يتنازل عن مستحقاته الجمالية. كما يمثل الإعلام الأداة الرافعة لاستنهاض الإنتاج المسرحي في الإعلام الغربي، يبتدئ داخليا ليغزو خارجيا. ويمكن توصيف أزمة المسرح المغربي بأن القيمين عليه لا تهمهم سوى دورة العجلة، واتباع نهج سياسة "الجمهور عايز كده" كحجة بسيطة لتمرير بعض المسرحيات المسماة "اجتماعية". لكن المشرفين على هذه البرامج لم يقوموا بتنظيم استفتاء يحدد لنا أذواق المشاهدين المغاربة ورغباتهم، وكان من المستحب لكي يتجاوزوا أزمة ركود المسرح المغربي أن يعودوا إلى ريبرتوار الرواد في المسرح المغربي، أمثال الطيب العلج والطيب الصديقي وغيرهم، مع ضرورة اعتماد تجارب المسرحيين الجدد والتعريف بهم، عن طريق عرض مسرحياتهم المقصية والمهمشة التي أجازتها لجن الدعم المادي، دون أن يتم عرضها على نطاق واسع؛ ولا يكلف هذا المسعى النبيل مؤسسة التلفزة المغربية إلا التعاقد مع مخرجيها حول حقوق التأليف والأداء المسرحي، خاصة أن بعضها أحرزت جوائز في مهرجانات عربية ودولية، وأجازتها لجن الدعم المسرحي، وبقيت مركونة في سلة المهملات الموجودة في أقبية دار البريهي التحتية. أما على مستوى التيمات التي تمثل مفخرة القوة الناعمة، فإننا نجد أن السينمائيين المغاربة يتهربون -ربما- نتيجة ضعف الإمكانات الإنتاجية والدعم المادي، أو لعدم قدرتهم على التعاطي من الناحية الفنية مع موضوعات تاريخية، تعتبر المرآة الناصعة للتعبير عن القوة المغربية الذكية. لكن التطرق لهذه الموضوعات إن وجدت الإمكانات المادية لا يعني استسهالا لها أو تسفيلا لقيمتها الفنية، عبر السقوط في اللغة المباشرة أو النزعة الخطابية المتشنجة بدعوى الواقعية الخشنة؛ بل إن مقاربتها تتطلب دراية فنية كبيرة، إذ نجد في المجال السينمائي أن الموضوعات التاريخية التي ترتبط بالذاكرة الجمعية، وبما تتضمنه من رصيد أخلاقي وروحي وإنساني، لم تقترب منها عين الكاميرا المغربية، بالرغم من جماليتها القيمية وقوتها الناعمة. والتفتت السينما المغربية مضطرة إلى موضوعات تجريبية خفيفة باسم الحداثة السريعة. وكدليل على غنى الذاكرة المغربية واختزانها لموضوعات وازنة، تستحق المعالجة السينمائية، عندما تتطرق لموضوعات تخدم القوة الناعمة للمغرب، نذكر بعضا منها للتدليل، كشخصية "استيفانيكو"، المعروف بمصطفى الزموري (1500- 1539 )، ومغامرات الفتية المغرورين في عباب بحر الظلمات، وهم من أبناء مدينة أسفي حسب تعبير الجغرافي الشريف الادريسي، الذين ذهبوا إلى اكتشاف أمريكا قبل رحلة كرستوبال كولون، وموضوع معركة وادي المخازن ضد الصليبيين ومعركة إسلي وحرب تطوان التي كانت لحظة فارقة أدت إلى الدخول الاستعماري للمغرب، ومعركة بوغافر والبعثة العلمية التي أرسلها الملك الحسن الأول إلى أوروبا، وثورة عبد الكريم الخطابي وتمرد أحمد الريسوني، أسد جبالة، وموحا الزياني والهيبة والشيخ ماء العينين، والرحالة ابن بطوطة الذي جال الآفاق، وليون الإفريقي المسمى الحسن الوزان المغربي الفاسي صاحب كتاب "وصف إفريقيا"، الذي كان على المخرجين السينمائيين المغاربة أن ينتظروا أكثر من ربع قرن، بعد صدور رواية اللبناني أمين المعلوف، ليلتفتوا إلى وجود هذه الشخصية الحضارية المتعددة الأبعاد، والذي سيستعيده مؤخرا إلى وطنه المخرج سهيل بنبركة. ومن هذه الموضوعات كذلك مشاركة المغاربة بقيادة الجنرال المعروف بالحمر أو العبدي في الحرب الفيتنامية ضد الفرنسيين ومساهمتهم في الحرب الأهلية الإسبانية ضمن صفوف الجمهوريين، والهروب الكبير من سجن العلو، الذي قام به المقاومون المغاربة، وحماية محمد الخامس لليهود المغاربة والفرنسيين من مطاردة النازية لهم في عهد حكومة فيشي. إلخ. هذه أمثلة، مجرد غيض من فيض، لموضوعات بالرغم من أصالتها الحضارية لم تمسسها بعد إبداعات المغاربة، إما لكلفة إنتاجها أو لأسباب مجهولة. هناك دلالة فارقة للسبق التاريخي والمعالجة السينمائية لتاريخ الأندلس من قبل المخرجين السينمائيين السوريين، لأنهم قدموا في أفلامهم بكفاءة جمالية عالية قراءة للوجود العربي في الأندلس، تعتبر منحازة لوجهة نظر"شامية"، تسقط أناها التاريخي على تيمة الأندلس؛ وهي المقاربة التي تعتمد على ما أسميه "الرؤية الأموية" للأندلس، التي تنفي بدهاء فني ماكر الدور الحضاري المغربي عند اجتياز الأندلس، وتعتبره مجرد تأثيث مشهدي ليس إلا، إذ لا يذكر أي دور للجيوش المغربية التي بفضلها تم غزو الأندلس أو لطارق بن زياد أو يوسف بن تاشفين إلا عرضا. كما أن دبلجة المسلسلات التاريخية مثل "حريم السلطان"، والتي لقيت رواجا وإعجابا من لدن النظارة المغاربة والعرب، بسبب الشح في الموضوعات التاريخية، التي تخلو منها الدراما المغربية، ما أدى إلى الرغبة اللاشعورية عند الجمهور المغربي الذي يفتقر إلى وجود بطولات وأمجاد حقيقية أو متخيلة، استفاد منها الأتراك على مستوى توظيف القوة الناعمة في ترويج المسلسلات التاريخية التركية المدبلجة بأثمان زهيدة، لكي تقوم بالدعاية والترويج لدولة الخلافة العثمانية البائدة. لا يحلق طير القوة الناعمة إلا بجناحين هما الحرية والمعرفة، فمهما كان عدد المثقفين والفنانين وعدد المسارح وقاعات الفنون، ومهما وصلنا إليه من حجم لإنتاجنا الدرامي والمسرحي والسينمائي، فإنه يبقى بدون قيمة تذكر إذا لم يواكبه سياق من الحريات السياسية واحترام الحقوق المدنية ووجود اقتصاد تنافسي قادر على تحقيق فرص الشغل وواجبات العيش الكريم في ظل الحكامة الرشيدة. فلا يمكن للقوة الناعمة أن يكون لها تأثير حقيقي في غياب إرادة سياسية تقودها الدولة، لكي تتحول مقومات القوة الحقيقية إلى أهداف إستراتيجية. في هذا السياق نجد أن المغرب كان سباقا على مستوى الحقوق المدنية من خلال تدشينه لورش "الإنصاف والحقيقة"، وتحقيق المصالحة المتعلقة بما يعرف بسنوات الرصاص والجمر، قبل انطلاق ثورات الربيع العربي؛ وكثاني دولة إفريقية وعربية وإسلامية بعد جنوب إفريقيا. واعتبرت هذه التجربة رائدة في هذا الميدان، تلتها تجارب لاحقة في تونس وفي بعض الدول الإفريقية، دون أن يعمل المغرب على تسويقها خارجيا، والتعريف بمصادر قوته الناعمة، خاصة في زمن صعود العنف المقدس والعولمة الكاسحة. في المسار الإصلاحي نفسه نهج المغرب منذ القديم اختيارا دينيا متسامحا ومنهجا تعادليا اكتسب مصداقيته عربيا وإفريقيا كنموذج يحتذى عند مسلمي دول المهجر والدول الإفريقية. كما أنه على مستوى إصلاح "مدونة الأسرة" قام المغرب بتحقيق قفزة نوعية رائدة، في تحقيق إنصاف المرأة عبر تأسيسه "هيئة المناصفة ومحاربة كل أشكال التمييز"، وإقرار قانون لمناهضة العنف ضد النساء وضد التحرش والاغتصاب. إن تقدير أهمية القوة الناعمة في محاربة التطرف والعنف الإرهابي يقتضي ضرورة إعادة تجديد التصور التقليدي للشأن الثقافي وتثمين أدواره؛ فلم يعد ممكنا قبول تلك الأطروحة القديمة التي كانت تردد أن الدولة (أو وزارة الثقافة) لا تصنع مثقفين ولا تنتج مبدعين. وتدعونا مثل هذه الدعاوى إلى أن نبقى دائما ضحايا المنظور المثالي للإبداع الذي لم يعد يتماشى مع سياقات الثورة التكنولوجية، التي صارت تتطلب استثمارا ضخما في زمن الصناعات الثقافية ومجتمع المعرفة (السينما، الكتاب، المسرح، الموسيقى، الإشهار، الدايزين) أو في الإنتاجات ذات المحتوى الثقافي (الصناعة التقليدية، الطبخ المغربي، العمران التاريخي). وعلى المستوى التعليمي فإن أهمية هذه الصناعات الثقافية، وطرائق استنباتها في البيئة المغربية، يتطلب إدراجها ضمن المنظومة التربوية الوطنية، مع خلق مسالك جديدة لتوجيه الناشئة منذ المستوى الإعدادي، لكي يمثل الحقل التربوي المجال الأرحب لنشر الإبداع الأدبي المغربي والوقوف على خصوصياته الفنية والإنسانية والحضارية، وضرورة العناية بالتعبيرات الجمالية، مع دعم الدولة للمجتمع المدني واستقلاليته، وتقوية الطبقة الوسطى صاحبة التغيير الخلاق، التي تراجع دورها مع صعود الإسلام السياسي، لأنها القادرة على تثمين الثقافة والفن ودورهما في إرساء قيم الإبداع والابتكار، ورفعها من شروط جودة أساليب الحياة، مع مراجعة شاملة للمناهج التربوية العتيقة، من طرف لجنة علمية أكاديمية مستقلة للمساهمة في تجفيف منابع الإرهاب التي تحرض على العنف والكراهية السوداء. إن تراجع القوة الناعمة عندنا قد يعود إلى خيبات الأمل الداخلية التي تقود إلى انتشار الإحباط السياسي وعدم التطلع إلى مستقبل أفضل. لكن إيقاظ القوة الناعمة حاضرا قد يساهم مع وجود الدولة القوية والمشروع التنموي الجديد في عودة الروح المغربية الناهضة.