في وقت تتصارع فيه حضارات العالم وقواه على غزو العالم ثقافياً واقتصاديا وربما سياسياً، ينشغل العرب بهوياتهم الصغرى، تاركين أبوابهم مشرعة لأمم الغرب والهند والترك والمكسيك والفرس والروس، لكأنهم غنيمة مستباحة، لا يبالون أي الأهداف جرى تسديدها في ملاعبهم التي تستلذ تلقي الأهداف الموجعة واحدة إثر أخرى. يقال هذا في مناسبةٍ لا تزال فيها أصداء منع مجموعة "إم بي سي" المسلسلات التركية تتردد بين الأوساط المختلفة، إلى درجة استدعت احتجاج مسؤول تركي رفيع، رأى فيها على ما يبدو أنها تؤثر سلباً على القوة الناعمة للعثمانيين الجدد، المتجهة إلى العرب. لكن اللغو الذي يحاول تفسير المنع الجديد بأنه وصاية على الشعوب، من جانب بعض الأطياف الميالة إلى الهوى التركي، لم يستطع إخفاء تناقضه بين الغاية والوسيلة، أو هشاشة التعليل؛ فبعض أطياف الإسلاميين الذين نظروا إلى الموضوع بعين تركية، كانوا فيما مضى أسبق الناس إلى نقد تلك الدراما بوصفها مؤثرة في تفكيك القيم الاجتماعية، وحلفاؤهم اليساريين في هذه الموجة هم أيضاً أعلى الناس صوتاً فيما سبق ضد الغزو الثقافي للهوية العربية، خصوصاً من الإمبريالية والمستعمر من أي نوع كان تركياً أو فرنسياً أو إيطاليا. الأهم من هذا السجال، أياً كانت دوافع المنع الذي تم، هل هو مفيد؟ ثم لو صحت فرضية أن السياسي هو الذي كان خلف المنع ما الإشكال؟ وقبل ذلك إلى أي مدى يمكن تعويض الفراغ الذي أحدثه المنع؟ نقاش هذه الأسئلة وغيرها ليس ترفاً في وقت نجد المسألة التركية في شقها الأيديولوجي والثقافي والسياسي وحتى الاقتصادي، محل طرح جاد في أكثر من دولة عربية في سوريا والعراق والخليجا وليبيا والسودان والمغرب وأفريقيا. لا شك في أن جدوى المنع تناقصت في عصر التكنولوجياً؛ ولكنها لا تزال تؤتي بعض ثمارها، وما على المشكك إلا أن يستعين بأحد مواقع تحليل البيانات فينظر كيف كان موقع بعينه قبل حظره في دولة مثل السعودية وبعده. سيجد الهوة شاسعة. هذا بخصوص الأنترنت الذي تنتشر عبره وسائل تجاوز الحظر، أما بالنسبة إلى شبكة عملاقة مثل "إم بي سي" فإن تأثير منعها سيكون ضخماً بحجمها. وفي الجانب السياسي لا ندري لماذا يُطالب السياسي والأمني بكل شيء، حتى بإعادة السيارات المسروقة إلى مالكيها، ثم لا يؤذن له عند البعض حتى باتخاذ تدابيره الخاصة لمنع المجرمين التسلل إلى تلك السيارة مجدداً. يبقى الفراغ هو المهمة الصعبة، بسبب حالة عربية، اعتاد فيها الجميع الاستهلاك عوضاً عن الانتاج والابتكار؛ غير أن التجارب السابقة برهنت على أن التعويض ممكن، ففي وقت مضى كان الناس يتوقعون أن توقيف برنامج ديني أو اجتماعي معين سيحدث زلزالاً في نسب مشاهدات المجموعة، لكن عكس ذلك ما جرى. إذا توافرت الرؤية والإرادة والمال، فالسوق العالمية مفتوحة بما فيها التركية، وها هي جامعات عريقة ومتاحف مثل "اللوفر" جرى نقلها وتوطينها مع أنه أصعب بمراحل من الدراما، التي قطع العرب مجتمعين فيها شوطاً. وربما يجد بعض العرب في مبادرة شبكة "إم بي سي" نافذة يقفزون منها، وهم الذين تناولوا الغزو التركي بكثير من القلق مرات عدة، حتى إن السلطات المغربية منذ نحو شهرين فقط فرضت ضرائب إضافية على السلع التركية التي أغرقت بها أنقرة السوق المغربية، والعرب في هذا ليسوا بدعاً من العالم، فلم يجف بعدُ قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض سياسات حمائية من أجل اقتصاد بلاده، فهل نرى بعد حين التلفزة المغربية، وقد تعافت من "سامحيني" وبقية الهوس التركي؟ لا يعني ذلك دعوة إلى القطيعة أو كرهاً للأمم والأتراك ودعوة إلى الانغلاق، إنما لأن العرب مثقلون بقضاياهم، فلماذا عليهم أن يضيفوا إليها أعباء تركية وأخرى هندية وثالثة مكسيكية، زيادة على الغربية "المعولمة" التي عمت بها البلوى، ناهيك عن التكاليف الباهظة. مسلسل تركي واحد واثنان وثلاثة منطقية؛ لكن أن تعيش قنوات العرب كلها أو جلها تركيا ليلاً ونهاراً كما لو أن لها دينا يقضونه، "بزاف". *كاتب صحافي