من بين الصحفيين، الذين ظللت أداوم على قراءة افتتاحياتهم، كان "توفيق بوعشرين". وإن لم تكن تخفى خلفية الأخير "الإسلامية"، التي انتهت به "بنكيرانيا" شرسا، في وجه حكومة العثماني وداعميه، إلا أن ذكاءه الصحفي، مُعزَّزا بسلاسة أسلوبه في الكتابة، جعلا منه صحفيا جديرا بالقراءة والمتابعة. فلقياس ما كان يروج في البلاد من آراء ومواقف، لم يكن ممكنا، بالنسبة لشخصي، التغاضي عن قراءة "افتتاحيات" بوعشرين، المصوغة بلغة الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرهما. دفعا لكل سجال جانبي، لست معنيا (في هذه الكلمة) بتقييم نتائج حكومة "بنكيران" الكارثية، التي استمر الصحفي المتهم في الدفاع عنها، حتى بعد الإقالة الشهيرة. ومع ذلك، فليس بوسعنا غير طرح سؤالين، واحد في إثر آخر: هل من الممكن "تحييد" خلفية الرجل الإيديولوجية ومواقفه السياسية؟ هل من الممكن معالجة القضية معالجة "قضائية "صرف بتعبير آخر؟ أتصور أن في طبيعة التداخل القائم، أخذت تنبري العديد من الآراء، إما لإدانة بوعشرين أو لتبرئته. من جهتي، لا أتصور أن يكون للقضاء رأيه بمفرده، في ظل التقاطب السياسي الواقع، بين أكثر من وجهة نظر واحدة. ولعل مركز "ثقل" القضية، الذي قد يجعل منها "محاكمة القرن"، أيضا، أنها ذات بعد أخلاقي في مبتدئها: التحرش الجنسي باستغلال ضعف الناس. بين مواقف الرجل المبدئية، مُمثَّلة في كتاباته الصحفية المناوئة لبعض مراكز النفوذ، واتهامات المشتكيات بالتحرش، ترتسم مفارقة كبرى على أكثر من صعيد. ففي الوقت الذي نلمس قدرا من "الطهرانية" في بعض مواقف الصحفي، نجد أنفسنا محمولين على الأخذ بعين الاعتبار دعاوى المشتكيات من التحرش. من الجاري القول، في مثل هذه الحالة، إن ما من "مخرج" هناك، بعيدا عن القضاء وحكمه، باعتباره صاحب الكلمة الأخيرة. وبالطبع، لا يمكن لأي منا الاختلاف حول ذلك، مع ملاحظة أن ل "الدفاع" أدوارا مهمة، في ما يخص تجلية الكثير من المعطيات والحقائق. في انتظار الاطلاع على العديد من الحيثيات، التي لا نتوفر على معطيات حولها، لا يستطيع المرء أن يخفي اندهاشه من "هوية" المشتكيات من التحرش. إذا اقتصرنا على طبيعة المهن التي يزاولنها، سنجد أنهن صحفيات من نخبة المجتمع وزبدته. ولعل ما يدهش في الأمر أكثر، هو ذلك التحويل المُمارَس قِبَل البعض: تحويل الصحفيات إلى مجرد "فتيات" قاصرات أو سيدات معوزات، بحيث يمكن التغرير بهن والتحرش بسهولة. إذا كان الأمر كذلك، بالنسبة ل"ذوات الرأي" من الأمة، ولو افتراضا، فكيف يكون بالنسبة لسوادها من "القابعات" تحت عتبة الفقر و"الأميات"، وإن بات الفقر والأمية غير مُبرِّرين لأي سلوك؟ ما من شك في أن تشهد القضية "نزالات" قضائية ساخنة، تستأثر بمتابعة الرأي العام الوطني، ومعه العديد من المنظمات الإقليمية والدولية، المشتغلة بقضايا الصحافة والإعلام وحقوق الإنسان. في الأخير، لابد من الإشارة إلى أن "جوا" كئيبا يخيم على البلاد والعباد، في ظل تداعيات أحداث الحسيمة وغيرها، ما يجعل قضية بوعشرين تزيدها قتامة، إن لم تتم معالجتها بالمهنية القضائية المطلوبة. أماالحنكة السياسية اللازمة، فهي حاجة كل ساع إلى تَبيُّن معالم الطريق الوطنية: طريق العدالة والديمقراطية والتنمية.