عن أبي قتادة -رضي الله عنه-قال: كنا جلوسا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-إذ طلعت جنازة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "مستريح، أو مستراح منه"، فقالوا: يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: "العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد، والشجر والدواب". وإذا كان موت الإنسان المؤمن كما جاء في الحديث الشريف راحة له من تعب الدنيا، فإن هذه الراحة أولى له في قبره. لكن الذي يزور مقابر المسلمين في بلدنا المسلم هذا يجد مظاهر من الصخب والفوضى تقلق سكينة الأحياء قبل الأموات. فبمجرد أن تقف على قبر من القبور قصد الترحم والدعاء للميت في صمت وسكينة، يطلع عليك أقوام من كل حدب وصوب أو قل من كل قبر وشبر لا يراعون للموتى حرمة، مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ. ومنهم من يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، يتلون آيات الله بلا قواعد ولا ضوابط، وربما بلا طهارة أيضا، ليس لهمهم شيء سوى جمع الأموال وكأن المقام لا يعنيهم وقد نسوا أن القبر أكبر موعظة، فقد قال قيس بن عباد التابعي رحمه الله: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند ثلاث: عند الجنازة، وعند الذكر، وعند القتال" (رواه البيهقي في "السنن الكبرى"). وإذا كان المشي بالنعال بين القبور منهيا عنه، فمن باب أولى أن يشمل النهي المرور فوق القبور أو الجلوس عليها، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لَأَنْ يَجْلِسَ أحدُكم على جَمْرَةٍ فتَحْرِقَ ثيابَه، فتَخْلُصَ إلى جِلْدِه، خيرٌ له من أن يَجْلِسَ على قَبرٍ). طبعا لا اختلاف على جواز الوقوف على القبر كما أخبر بذلك ثلة من العلماء مثل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله من أن الرسول صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه كان إذا فرغ من الدفن وقف على القبر وقال: "استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل". لكن لابد للنهي هنا من ضابط يُمَنٍّعه يقع عاتقه على الوزارة الوصية التي يجب عليها أن تعمل على استتباب السكينة داخل المقابر بالدعوة إلى إحداث فرقة لشرطة المقابر تكون مهمتها ليس فقط الحفاظ على السكينة، وإنما تطهير هذه المقابر من المتسولين والمضايقين للزوار الذين يكفيهم ما ألم بهم من مصاب وصفه الله عز وجل في قوله "إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت" (الآية 108 من سورة المائد)؛ إذ كيف يكون التسول أمام الأحياء منا جريمة يعاقب عليها بمقتضى القانون الجنائي في فصوله من 326 إلى 333، بينما لا يتم تفعيل هذه المقتضيات ضد المتسولين والمتسكعين في حضرة الأموات. وإن الذي يحز في النفس أن تجد اليهود والنصارى أشد إتقانا ومحافظة على مقابرهم من حرص المسلمين على ذلك ونحن أحق بالأمر منهم، فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في جنازة ولما وصلت إلى البقيع جاء أحد أصحاب رسول الله وحفر القبر ووُضع الميت في القبر ورُدم القبرُ، دون إتقان، فقال عليه الصلاة والسلام: إن هذا - أي إن عدم إتقان ردم التراب على الميت - لا ينفع الميت، ولا يضره، ولكن اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ (من خطب النابلسي)، أو كقوله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: "لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ" (رواه مسلم).