إن خوض نقاش حول الإصلاح الحزبي في سياق المد الديمقراطي المتواصل لا ينم عن شجاعة سياسية وتنظيمية لحزب العدالة والتنمية وحسب، وإنما يكرس أيضا ريادته في التجاوب مع تطلعات الاصلاح. ويضفي مزيدا من المصداقية على الخطاب الإصلاحي الذي يصدر عنه من خلال البدء من نفسه وإعطاء القدوة من ذاته، ذلك أن الإصلاح قبل ان يكون مطلبا موجها إلى الدولة يعتبر كذلك قضية جماعية ومجتمعية صاعدة من الأسفل نحو الأعلى ونازلة من الأعلى إلى الأسفل وأفقية تخترق جميع مؤسسات الدولة والمجتمع . لقد كان بإمكان حزب العدالة والتنمية أن يتعلل بأكثر من سبب لتأجيل الخوض في إستحقاق من هذا القبيل تحت ضربات الخصوصم إلا انه فضل أن يواجه مخططات الإستدراج إلى مواقع الدفاع وردود الفعل على ما يتعرض له من إستهدافات بإلقاء حجر جديد في بركة الركود والجمود الذي يعيش فيه المشهد الحزبي والسياسي . وه بذلك أثبت مرة أخرى غنتسابه الأصيل إلى معسكر الإصلاح الديمقراطي في مواجهة خندق التغول السلطوي. من غير شك أن يوم 11 شتنبر سيؤرخ لحدث هام في المشهد الحزبي يسجل فيه لحزب العدالة والتنمية فتحه لهذا الملف وجرأته في الأقدام على الخطوة الأولى على طريق تأهيل الأداة الحزبية واختبار خطاب التباكي على إصلاح الحزبي ونزوعات مصادرة حرية وإستقلالية الأحزاب بمبرر إعادة هيكلة المشهد الحزبي وفرز خريطة حزبية منسجمة. إن تحديد الولايات في الإنتدابات الإنتخابية تتجاوز أن تكون مجرد شأن حزبي وحسب بقدر ما ستشكل على المدى المنظور قاعدة قانونية وتشريعية نطمح أن تكرس دستوريا على غرار ما وقع بالنسبة لقضية الترحال السياسي ومسايرة للإتجاهات الحديثة التشريعية والدستورية في البلدان الأكثر ديمقراطية. من دون شك أن تحديد الولايات في الإنتدابات الإنتخابية ما هو إلا جزء من حزمة إصلاحات إلى جانب التنافي بين مستويات هذه الإنتدابات وعدم تركيز المسؤوليات والمهام والتي يتعين على الفاعل الحزبي أن يدشنها لكي يؤهل نفسه لقيادة مرحلة الربيع الديمقراطي ولكي يستطيع ان يقدم نفسه حاضنة مناسبة للفاعلين الجدد على مسرح الحراك العربي تتجاوب مع التطلعات الشبابية التي التواقة إلى إطارات سياسية وحزبية تليق بكافاءاتها وقمينة بتفجير طاقاتها في خدمة البلاد من موقع إصلاحي وملتزم وحتى لا يترك الشباب الجاد وجها لوج أمام العروض الحزبية التي تقدم رشاوي سياسية . وبهذا المعنى ظل تحديد الولايات في الإنتدابات العمومية على غرار ما هو معمول به بالنسبة للولايات التدبيرية الحزبية، نقطة ثابتة في نقاشات الهيئات التداولية داخل حزب العدالة والتنمية لكن دون أن يجد طريقه إلى قوانين الحزب ومساطر اختيار مرشحيه إلىأن جاءت دورة المجلس الوطني الأخيرة المنعقدة بتاريخ 8 غشت 2011 والتي خلصت إلى استصدار توصية هامة على طريق اعتماد هذا الخيار وذلك بإحالة الموضوع إلى لجنتي التنظين والمساطرة بقصد تعميق الدراسة . ومن هذا المنطلق فإن موضوع تحديد الولايات يكتسي اهمية قصوى في وقتنا الراهن باعتباره مدخلا نوعيا للتأهيل الحزبي والإصلاح السياسي العام. دواعي تحديد الولايات في الإنتدابات العمومية ستمكن عملية تحديد الولايات في الإنتدابات العمومية من تحقيق جملة من المقاصد والأهداف أولها المساهمة في تجديد الأفكار والتصورات وتضمن إستمرار وانتظام هذا التجديد وفرز النخب وتشبيبها، وتوفر ثانيا ضمانة لتكافؤ الفرص والوقاية من آفات التسابق والتنافس المرضي على المناصب والمقاعد خصوصا عبر الوسائل والطرق عير المشروعة من قبيل الكولسة والتعبئة والغش . ذلك أن التأثيم الأخلاقي والتربوي والمنع القانوني والمسطري لمثل هذه الآفات لن ينتج آثاره المرجوة ما لم تواكبه أدوات وطرق واضحة ومسطرية للتداول الطبيعي والإدرادي على هذه الإنتدابات والحيلولة دون إحتكارها أو تركزها . غير ان الأهم هو ما توفره من فرص لوصول موارد جديدة بخبرات متنوعة وحماس متجدد تعطي نفسا متجددا للعمل باسم الحزب في المواقع والمؤسسات المعنية. كما تساعد على رابعا على توسيع قاعدة المشاركة في إتخاذ القرار وهي فضلا عن ذلك كله تمثل آلية لمقاومة قيم الجمود والمحافظة والركون إلى الجاهو وتحاربا عمليا ممقولات من مثل ليس في الإمكان أبدع مما كان وتشكل أخيرا الأداة الإرادية للتأهيل القيادي وتوسيه البنية القيادية أمام ضعف أو غياب أدوات التكون والتأهيل وتخريج الخلف القيادي. تحديد الولايات قضية مبدئية وقيمية كما أن التحديد هو مظنة للتجديد والتجدد والتطوير والتطور، فهو لا يخلو من سلبيات لعل أهمها المغامرة وقلة الخبرة وضعف التجربة مؤقتا وفي المقابل فإن الإستمرارية والتراكم كما هي قرينة لتراكم التجربة والخبرة والدراية، فهي مظنة للجمود والميل للمحافظة والركون إلى الجاهز وضعف الحماسة وسيادة الفتور والتبرم فضلا عن سلبيات اخرى تبقى في طليعتها الحرص على متعلقات المنصب المعنوية والمادية والميل غلى آفات الإعجاب بالرأي والإستبداد به والجنوح إلى إتباع الهوى ومنطق إن أريكم إلا ما أرى وأن ليس في الإمكان ابدع مما كان. وتحديد الولايات هو أحد المداخل إلى الإنفتاح والتجديد والفاعلية ولا تقتصر فوائده فقط في تحقيق التشبيب والدمقرطة؛ ذلك أن توفير قنوات طبيعية ومسالك واضحة امام الكفاءات الوطنية والطاقات الشابة للمشاركة في إتخاذ القرار والمساهمة في تدبيرالشان العام، سوف يحررها من الليات القصرية والتحكمية التي تفرضها السلطة أمامها إن هي ارادت ان تساهم في الشان العام ولن تبقى آلية الأعيان والتقنقراط وريع الكوتات والمحاصصة الفئوية هي المداخل الوحيدة أمام هذه الكفاءات والطاقات للممارسة السياسة من فوق. وفي هذا الصدد يتوقف مطلب الإنفتاح والتشبيب وتجديد النخب وبت روح الفاعلية على ضرورة اعتماد آليات الديمقراطية الإجرائية والتدابير الإرادية والقاصدة لفتح الورش الحزبي على الإصلاح. وحزب العدالة والتنمية وهو يخوض هذا الإستحقاق يثبت مرة أخرى أنه حاضنة فعلية للآمال الإصلاحية التي تحملت العديد من الشخصيات والفئات. أما الشباب الذي شطب الخوف من قاموسه وانخرط في حراكه الشعبي ضد الإستبداد والفساد، فمن دون شك سيجد أمامه حزبا ديمقراطيا إصلاحيا حداثيا وفاعلا يحمل نفس مطالبه ويعزف نفس لحنه وفي ذات الوقت يوفر فرصا كبيرة للإنخراك والأداء والترقي الطبيعي على اساس الكفاءة وبحجم ونوعية الأداء وليس على أي أساس آخر من قبيل الولاءات الشخصية والزبونية أو تحت التهديد أو الإغراء. تحديد الولايات من الناحية المبدئية سوف يعضد الخطاب القيمي والأخلاقي للمحافظة على الصبغة وعدم الإنسياق مع ما تجره المهمة من إمتيازات بإجراءات مسطرية وقانونية،كما سيساعد على التنبيه إلى أن المهمة مؤقتة وغير دائمة ويجعل من يتحملها مستشعرا بانه يؤدي امانة من الأمانات العامة فيقي نفسه من متعلقاتها ومفسداتها؛ تحديد الولايات آلية في التندبير الأنجع ووسيلة المعالجة افستباقية لبعض المشاكل فثمة حاجة ملحة لتدبير عقلاني وراشد واستباقي لبعض القضايا في الشان الحزبي التي تقض مضجع أغلب الأحزاب السياسية بما فيها تلك التي كانت منطلقاتها الفكرية والقيمية تشبه إلى حد كبير المنطلقات التي ينطلق منها حزب العدالة والتنمية على الأقل من الناحية الإصلاحية في الإصرار على الإصلاح ومقاومة الفساد والإستبداد، وهي اليوم تئن تحت وطاة قضايا كانت تظن أنها غير معنية بها أو ان ظهورها لن يبلغ الحجم والدرجة التي قد تعصف بمشروعها أو تعيق مسيرتها. من جملة هذه القضايا التي تتطلب معالجة إستباقية عبر تحديد الولايات وغيرها هي أولا قضية تغول بعض الشخصيات او الفئات أو اصحاب المصالح المتراكمة والتي يتحول الحزب وربما المشروع برمته إلى رهينة في يدها وخاضع لمزجتها ومصالحها وتقديراتها الخاصة. وثانيا قضية التنازع عن المسؤوليات وثالثا وليس آخيرا قضية الصراع بين الأجيال وهي قضايا غذا ما تم التواضع على قنوات للتصريف المبكر للخلافات فسوف يؤدي ذلك كله غلى توقي الوقوع فيها. فليس الهدف من تحديد الولايات هو التخلي عن كفاءات وطاقات الحزب التي تراكم خبرات وتجارب يكون الحزب في مسيسي الحاجة إليها، ولكن سيساعد هذا الإجراء على نحو أفضل على إعادة إنتشار هذه الكفاءات وهذه الخبرات الذي يمنع تجحذر وتراكم هذه المصالح من جهة وياسعد الحزب على ولوج فضاءات جديدة وفتح أوراش أخرى بهذه الطاقات فنضمن عن طريق تحديد الولايات إتاحة االفرصة للتداول على فرص غمتلاك هذه الخبرة بين أوسع فئة ممكنة ونوفر إحتياطي من الطاقات الخبيرة ما يمكننا من فتح أفاق جديدة للمشروع وللحزب. وفي هذا الإطار سيساهم تحديد الولايات في توفير عدد من القيادات والأطر المتفرغة للعمل النضالي الحزبي بعد أن راكمت أقدار معتبرة من الوعي والخبرة تمكنها من خدمة المشروع الحزبي وتوسيع علاقاته والدفاع عن أطروحاته والتمكين الشعبي لها. ولايتان تكفي لا يخلو الخطاب الرافض لتحديد الولايات من وجاهة وصواب في بعض دفوعاته وحججه غير ان ميله للمحافظة وإحتجاجه ببعض الممارسات الخاطئة في مواجهة الفكرة في حد ذاتها يجعل هذه الخطاب بعيدا عن تحقيق الإقناع المطلوب. فلطالما احتج البعض بمقولة التجديد الطبيعي الذي مالزال يتيح لحزب في بداية مشواره نسبا عالية من التجدد التلقائي بغض النظر عن روافد هذا التجدد وحجم المساهمة الإرادية لمؤسسات ومساطر الحزب في تحقيقه. لكن المشكلة التي يغفلها أصحاب هذا الطرح هو أن التجدد الطبيعي لا يتم بمساهمة فعلية وذاتية إذ الأمر يبقى من اختصاص المواطن المغربي الذي يمكنه أن يمنح ثقته لمن نرشحه أو يحجبها عنه وهو يؤسسه هذه الثقة غالبا على عناصر الخدمة والعلاقات الشخصية والمصلحية اكثر من اي شيء آخر، بينما يتاسس التجديد القاصد الذي يكون لمساطر الحزب وهيئاته دور في إحداثه على الإعتبرات النضالية والمهنية الإشعاعية وعلى المؤهلات السياسية او العلمية والعملية وفقا لرهانات كل مرحلة وتبعا لوظائف كل مهمة إنتدابية. وليس من مهمة هذا المقال الدخول في ماقشة الإعتراض ببعض القضايا الصغيرة من مثل ان يكون الدافع إلى مطلب تحديد الولايات رغبة جامحة لدى القائلين به لإخلاء المناصب لهم حتى يتناوبوا عليها بمنطق "مول نوبة" لأن ذلك لا يرقى إلى مستوى الرسالية والمسؤولية التي نظن أن الجميع يتساوون في تمثلها، ولا فائدة للإنتباه إلى مثل هذه المقولات لأن ذلك ينتمي غلى قاموس تشكيكي وإلى دائرة إتهام النوايا والشق عن الصدور ليس بالنسبة لمن يمكن ان يكون متطلعا إلى المسؤولية ومتشوفا إلى المنصب ولكن ايضا بالنسبة إلى من يمكن ان يكون حريصا على الاستمرار في هذه المسؤولية وعلى متعلقاتها المادية والمعنوية. إننا نحسب أن جميع الماضلين منزهين عن هذه الآفات والله حسيبهم والرقيب عليهم وهو وحده العليم بسريرة كل واحد (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور).