«ما جدوى هذا السجال؟ وما مدى مساهمته في فتح حوار حقيقي حول الإسلام، أو الثقافة الإسلامية؟ وما هي القيمة العلمية والمعرفية المضافة حول ما هو مشهور من ادعاءات حول القضايا المثارة؟ كما أنني أتساءل من جهة أخرى: ماذا يضير المنزعجين من مثل هذه الخطابات؟ وإلى أي حد يمكنها أن تسهم في زعزعة الاعتقاد، أو القضاء على الإسلام، إلى الحد الذي يجعلهم يعلنون النفير ضد هؤلاء؟“ هكذا تساءل د.سعيد يقطين في مقالة له نشرت في القدس العربي (7 فبراير الجاري) على هامش الجدال الذي أثير حول قضايا ”القرآن“ و“المصحف“ ومتن البخاري وما إلى ذلك من القضايا التي تثار حول الإسلام . إن هذا التساؤل يترجم حيرة المثقف العربي الراهن. وبقدر ما هو شعور ينم عن قلق معرفي، فإنه يجلي لنا الأزمة العميقة التي يتخبط فيها الفكر والمجتمع العربيين. فمنذ حاولي القرنين تقريبا والمجتمعات العربية الإسلامية تتمرغ في وحل بين النهضة المتعثرة والتراجعات في كل مشاريع الحداثة مقابل هيمنة ”السلفية“ واللاعقل. وفي كل الحالات كان الحضور الديني، بل نمط من الوعي الديني هو المهيمن. إن السجال الدائر اليوم حول قضايا الدين (الإسلامي خاصة) تأتي من هذا التحول الخطير الذي عرفه الدين في وظائفه داخل الجماعات المنتمية إليه، بل والتحول الخطير الذي طرأ على علاقات الإنسان والجماعات بالعالم وبالآخرين -مهما كانت طبيعته سواء تعلق الأمر بالاختلاف داخل الدين نفسه أوالديانات والمعتقدات الأخرى- إذ إن واقعنا يكشف عن الخلط اللاطبيعي للواقع بالوهم، وللتاريخ بالأسطورة والخرافة، وللعلم باللاهوت، وللحقيقة العلمية بالحقيقية الميتافيزيقية. لعل أهم ما يود الدارس المعاصر التأسيس له، من خلال التمييز بين القرآن والمصحف، والواقع التاريخي والواقع التقديسي، والأحداث الدينية والأحداث التاريخية، وبين التدين والدين، وبين الفرداني والجماعي، وبين الحقيقة التي تتميز بنسبيتها والحقيقة الدينية التي يكرسها الخطاب التقديسي في صورتها المطلقة، هو إسقاط الطابع المتعالي والميثولوجي عن ذلك، أي محاولة جعل التاريخ سلسلة من الوقائع التي جاءت نتيجة تدخل الفعل الإنساني، وإن الإنسانية تسير في اتجاه تصاعدي تنشد التطور وليس العكس كما يحدث مع الخطاب الديني المهيمن. ولعل أخطر ما نعانيه اليوم كون كل الدراسات التي تهتم بالإسلام التاريخي وإعادة قراءته وتخليصه من كل ما هو خرافي، تتحول إلى ”سجال“، في الوقت الذي ينبغي أن تتحول إلى حقائق (نسبية) جديدة تخلصنا من ”حقائق“ أثبتت التجربة التاريخية والحضارية والإنسانية أنها متجاوز. ففي الوقت الذي ينبغي فيه أن تتحول إلى حقائق تناقش من باب المعرفة التاريخية، سرعان ما تتحول إلي جدل عقيم غير منتج، بل يزيد من هيمنة ”التقديسي“. إذ لا يتم التمييز بين الإسلام التاريخي والإسلام الديني، وكل ما هو تاريخي له صلة بالدين يصبح حقيقة غير قابلة للجدال، لأن النصوص الثواني (أي النصوص التي شكلت قراءات واجتهادات للنص القرآني أو المتن السيري) هي التي أضحت تشكل مصدر الحقيقة والمقدس الذي صار مسيجا وحاطا بهالة القداسة التي لا تسمح بالاقتراب منه. إننا نحتاج إلى التمييز بين الدين والتدين، بين الخطاب الإسلامي والدين الإسلامي، بين المقدس باعتباره مطلبا إنسانيا وحاجة شخصية والفكر التقديسي الذي يجعل العالم خاضعا لمنظومته. ذلك أن المقدس ليس هر الديني فقط، لأن المقدس أشمل وأكبر وهو جزء من اعتقاداتنا اليومية، من تفاؤل وتشاؤم، وجزء من النظم التي تنتظم حولها حياتنا الاجتماعية والفردية. ولعل ما قالته كيرن أمسترونغ (Karen Armstrong, Where has God gone?. Newweek, July 12, pp54-55) يكشف لنا طبيعة المقدس ومكانته : ف ”الزراعة خبرة المقدس، لا نحتاج أن نعتقد في آلهة ما وراء الطبيعة. فلمدة أربعمائة سنة، راجع اليهود والمسيحيون والمسلمون بشكل ثابت وغيروا تصورهم لما يسمونه بالإله. فإذا كان إله التدين الغربي قد مات بالنسبة لعدد كبير من الناس، فهذا يعني ببساطة أننا مرة أخرى سائرون نحو فترة من الانتقال الديني. فحتى في أوربا (ما بعد المسيحية)، تتواصل الحاجة إلى النشوة Ecstasy سواء بإله أو بدون إله. فنحن مركبون بطريقة أنه عندما تجف منابع خبرة الإعلاء والتسامي، نلجأ إليها ببساطة في مكان آخر.بعضهم يجدها في الفنون. ومع ذلك لا تتحقق الحاجة للإعلاء بالثقافة الراقية فقط: فموسيقى الروك تولد لدى الشباب خبرة النشوة والانسحاب. وكذلك ثقافة المخدرات تبرز شبقا واسعا لبعد آخر من الوجود.“ فأن يعتبر القرآن نصا أنطولوجيا يظل أمرا مقبولا لكن أن يكون نصا علميا، هنا ندخل في سرادب الخطورة التي على المثقف أن يضطلع بمهام إنقاذ الحياة العامة من نسج علاقات مع المقدس الذي يتحول معه الدين إلى مركز العالم ومن ثم فإن الأصوليات الدينية -على حد تعبير أرمسترونغ- تؤكد نبوءة نيتشه بموت الإله، إذ تسعى إلى قتل كل قيم التسامي والقداسة السامية التي تساعد الفرد أو الجماعة على نسج علاقات إيجابية بالتأسيس لطموحات بقيم تجعل الفرد مركز العالم. صحيح أن المقدس يتجذر في اللاوعي الإنساني الفردي والجماعي كما ذكرنا، لكن أن يصبح الهم الفكري هو تطويع العالم لكي يتوافق مع يعتقدونه حقيقة في المجالات التي ”قتلت“ بحثا وضبطت علما، فآنذاك يصير من واجب المثقف الوقوف في وجه الواقع المأساوي المتخلف المضاد الذي يزيدنا اغترابا عن راهننا. وأعتقد أن حالنا اليوم -أقصد المجتمعات الإسلامية -سواء داخل الأقطار الإسلامية أو في السياقات المهجرية- يلزمنا بأن ننتقل من ”السجال“ إلى الجرأة في اقتحام الأراضي المقدسة لتنظيفها من الأوحال الخرافية حتى يتسنى لنا فهم تاريخنا واستيعابه من أجل تجاوزه، لأن التحولات الحضارية الراهنة تلزمنا بذلك، ولم يعد لنا من خيار آخر. وإذا كان المثقف العربي/المغربي فقد دوره الريادي في المجال السياسي، وتراجع دوره الفعال في تأطير الجيل الصاعد، سواء من خلال الجامعات أو المؤسسات التعليمية أو الجمعيات، بفعل هيمنة ”العولمة“ عبر ”الميديا“ وما يعرف بمواقع التواصل الاجتماعي، فإن آخر معاقله وأراضيه التي ينبغي أن يدخلها ويستثمر فيها هي خطابنا الديني المتهالك الذي صار مصنعا للعديد من المنتوجات الفكرية الفاسدة، والتي تساهم بصورة خطيرة في ما آلت إليه الأوضاع. يقول بيتر بيرجر ”..في بلادنا.. كلما أصبح الدين عاما فقد حقيقته، وكلما أصبح حقيقة فقد عموميته، إنه انفجار عظيم في هدف الدين“.