خلال السنوات الأخيرة، ومع توسّع دائرة المغاربة المستعملين لوسائط التواصل الحديثة، برزتْ على الساحة مجموعة من الوجوه المغمورة، باتَ كثير منها اليوم يحظى بمتابعة واسعة من قبَل المتلقّين، ويُثير ما يبثّونه عبر التدوينات أو مقاطع الفيديو نقاشا واسعا؛ بلْ إنّهم باتوا يُستدعوْن لتأطير ندوات ولقاءات حتى داخل الحرَم الجامعي. في هذا الحوار، يتحدث عياد أبْلال، الباحث في علم الاجتماع وأنثربولوجيا الثقافة، عنْ أسباب بروز هؤلاء "القادة الجدد للمجتمع"، وعن مسؤولية المثقف المغربي ومؤسسات الدولة والمجتمع في إفساح المجال أمامهم للانتشار على نطاق واسع، في وقت يخفتُ فيه نور الأفكار النيّرة ويضعف صوتُ العقل والحكمة.. ما رأيك في موضوع بروز "قادة جدد للمجتمع"، على الشبكات الاجتماعية، في مقابل تواري صوت المثقف المغربي؟ يقتضي الحديث عن شبكات التواصل الاجتماعي ودورها في صناعة الزعامات والقيادات الافتراضية استحضار سياق بروز هذه الشبكات من جهة، وأفول مؤسسات التنشئة الاجتماعية والثقافية والسياسية، خاصة بعد ضمور الفعل السياسي وتآكل الثقة في مؤسسات الوساطة التي كانت تُعتبر وما تزال، وإنْ بشكل خافت، آليات الوساطة بين الدولة والمجتمع، بشكل يخضع للبَراديغم المتعارَف عليه اجتماعيا وسياسياً. ولهذا، فالحديث عن شبكات التواصل الاجتماعي في بُعدها التنشيئي والتعبوي يخضع بالنهاية لحركية المجتمع والدولة في الوقت نفسه، ليس في المغرب فقط، بل في كل دول العالم، مع فارق الدرجة والنوع بكل تأكيد. لهذا، فالصراع الذي كان خفيا في السابق بين الدولة في بنيتها السلطوية والمجتمع، والذي أصبح بارزا بقوة اليوم، يشرح إلى حد كبير الإقصاء والتهجين والتدجين الذي مارسته الدولة على مؤسسات الوساطة، من جهة، وعلى المدرسة من جهة جوهرية أولى. من هنا، يمكن الحديث عن هجرة افتراضية من الواقع العياني الذي تشكله مؤسسات التنشئة والوساطة السياسية والاجتماعية والثقافية إلى العالم الافتراضي، باعتباره واقعا جديداً له بنيته وأولوياته الخاصة؛ لكن دون أن تنقطع الصلة بين الواقعيْن والعالمين، وهو ما جعل شبكات التواصل الاجتماعي تؤثر بشكل كبير في تحولات الواقع الميداني. وإذا كان المجتمع، كيفما كان، خاصة المجتمع ذي التضامن التقليداني، مرتبطا على مستوى بنيات المتخيل بالبطل الأسطوري، أو البطل الإشكالي بتعبير الفيلسوف جورج لوكاتش، فإنه لا يحيا إلا بسيكولوجيا الزعيم، ولذلك، فهي تصنع القائد وتخلقه ولو من أوهام، حتى لا تعيش القلق الوجودي المرتبط بغياب النموذج، بكل تأكيد حين فقدتِ المدرسة بشكل منهجي ومفكر فيه سلطتها المعرفية والقيمية، التي تعطي للمجتمع سلطة تنازعية في مقابل سلطوية الدولة، عبر هدم المدرسة والنقابة والحزب والجمعية، فإن المجتمع الفاقد للمشروع المجتمعي، المبني على سلطة المعرفة، بات يبحث عن مشروع في العالم الافتراضي، الذي وإن كان يبلور سلطة خطاب افتراضي غير منفصل كليا عن المعرفة، وإن كان مرتبطا بشكل أكبر بمعرفة الحس المشترك، معرفة الجماهير. ومن هنا، فسيكولوجية الجماهير تَصنع خطابا مرجعيا مؤسساً على بنيات المتخيل الشعبي، الذي تحضر فيه الثقافة القاعدية بتعبير رالف مليتون، حضوراً توجيهياً، وهي ثقافة تكون أحيانا على الضد من الثقافة العالمة، وتتعارض مرجعيا مع الخطاب المعرفي المؤسَّس على قاعدة العقل والمنطق، لتعانق بشكل لا إرادي ثقافة النقل والتعبئة والتجييش. وهو ما تشرحه إلى حد كبير ثقافة المشاركة "Partager"، التعميم، "اللايكات"، "البوز"، نسبة المشاهدة... من هنا، فقادة الحس المشترك لا يخرجون عن هذه الثقافة القاعدية، وعن سيكولوجيا الجماهير في الاسم، مثلما هو الحال في الدلالة، وتتوزع مجالات التأثير القاعدي حسب مجالات المعيش اليومي، في السياسي، الاجتماعي، الثقافي، الفني وهكذا.. هل هذه العواملُ متضافرة هي التي أدّت إلى تراجُع دور المثقف؟ في ظل هذا الوضع، من الطبيعي أن يتراجع دور المثقف والنموذج الاجتماعي الذي كان يشكل عبر المدرسة القدوة، خاصة مع دخول أصحاب المال والأعمال في صناعة النموذج القاعدي خارج أسوار المدرسة، وخارجَ مقتضيات المعرفة، في الثقافة والفن والاجتماع والسياسة على حد سواء، عبر التحكم في الإعلام السمعي البصري تحديدا. وبذلك بدأت الدولة في تحالفها مع المال والأعيان في صناعة النموذج الجديد، بعدما عجزت مؤسسات التنشئة الاجتماعية والوساطة المدنية في خلق نموذج القدوة، كما كان الأمر في السابق، فالنقابة، والحزب، والجامعة، والجمعية... كلها أصبحت عاقراً وعاجزة عن مدِّ المجتمع بالأطر الإيديولوجية للمعرفة، وتوجيهيه بنموذج البطل الأسطوري، القائد والزعيم الذي يشكل الأفق الحداثي والتقدمي بوصلته في المجتمع، ولذلك نجد أن الرياضة أو بالأحرى كرة القدم، السينما، مجال الغناء، الفكاهة.... مجالات تصنع النخب والنجومية، التي عوضت البطل الكلاسيكي بالبطل- النجم. ولعلنا نجد كذلك في البرامج الترفيهية والإشهار أحد أهم قنوات هذه الصناعة الجديدة، فبدل الحديث عن خريجي الجامعات والمعاهد بات المجتمع عبر تأثير الدولة وإعلامها يتحدث عن خريجي "ستانداب"، "ماستر شاف"، "ستار أكاديمي".. وبدل برامج تعتمد على خطاب معرفي فني وجمالي بتنا نتحدث عن "كيف كنت كيف وليتي"، و"رشيد شو"... وهلم جرّا. من هنا، بات الفن والاجتماع بشكل عام يتأسس على خطاب الحسِّ المشترك، لغة وقاموسا ودلالة. وهنا يمكن استحضار كلمات الأغنية المغربية، واستحضار خطاب الوعظ الارشادي الديني، وخطاب التشهير والإسفاف في السياسة والاجتماع، وهي خطابات لا تفصل العام عن الخاص، ولا تعترف بحدود الذاتي عن الموضوعي، في تعارض تام مع الخطاب الإبستيمي المؤسَّس على العقل والمنطق. هذا لا يعني غيابا كليّا للمثقف عن شبكات التواصل الاجتماعي، فتعميم القول هو إسفاف مُجانب للصواب والحقيقة؛ ذلك أن عددا مهما من المثقفين قد انخرطوا منذ بدايات العالم الرقمي والافتراضي في ممارسة سلطتهم المعرفية الرمزية عبر مقالات وتدوينات وحتى تسجيلات صوتية، على قلتها، وهي ممارسة نقدية بالدرجة الأولى، ولو أنَّ المقارنة تقودنا حتما نحو استحضار بروز قادات وزعامات افتراضية بعيدة عن صورة المثقف كما هو متعارف عليه كلاسيكيا. وهي زعامات افتراضية تتأسس على قاعدة معرفة الحس المشترك، وهي القاعدة التي تتعارض حتما مع الأسس المعرفية للخطاب العالم. كيف تفسرون الإقبال الذي يلقاه ما يعرضه هؤلاء "القادة الجُدد" على الشبكات الاجتماعية؟ ولماذا يتفاعل معهم الجمهور؟ بشكل عام، شبكات التواصل الاجتماعي هي شبكات الحسِّ المشترك، هذا لا يعني أنها تفتقد، على مستوى المضمون، إلى الخطاب المعرفي على مستوى بناء سلطتها في التأثير والتوجيه نهائيا، حتى لا نسقط في التعميم، هو وجه آخر للحس المشترك؛ ذلك أن قاعدة التلقي في هذا الفضاء الافتراضي قاعدة تعاني من شتى أصناف الأمية الثقافية والفكرية، بعدما أصبحت المدرسة مقصية من بناء المشروع المجتمعي، ومهدَّدة على الدوام بإجراءات هدم السلطة المعرفية التي تتأسس على قاعدتي الاستحقاق والمجهود.. ولذلك، فالتلقي الافتراضي يستمد طاقته التوليدية من الحس المشترك، لذلك تجد إقبالا كبيرا على أقوال "كبُّور" بدل أقوال العروي، أو الجابري، أو المنجرة... إلخ، وتجد متابعة رهيبة لعادل الميلودي، أو ابتسام تسكت، أو دنيا باطما بدل متابعة عبد الوهاب الدكالي، أو محمد الحياني، أو ناس الغيوان..... إلخ.. وتجد متابعة مكثفة لسكيزفورين، أو بوكسكيطة، أو الميلودي حين يتحدث في السياسة، أو أبيضار، في مقابل عدم متابعة ندوات أو لقاءات رصينة على الحامل الإلكتروني، لباحثين ومثقفين كبار في السياسة والاجتماع. عمليا، حين تكون الدولة في خدمة المجتمع، أي ما يمكن تسميته بالدولة الحامية، أو الدولة الأخلاقية، يكون الهدف هو الترقي بذائقة الجماهير ورؤيتها للعالم والأشياء في السياسية والثقافة والاجتماع إلى مستوى الخطاب المعرفي والجمالي، وليس تلبية رغباته بما يشتهي ويريد. لكن الدولة السلطوية تبني أسسها المرجعية على بنيات المتخيل الشعبي وعلى الحس المشترك حتى يسهل توجيه وقيادة الجماهير قيادة القطيع، ولربما نجد في توصيف نيتشه، ما يفي بالغرض، حينما تكلم عن "ديمقراطية القطيع". لذلك، تجد حتى الإعلام السمعي البصري يعتمد على نفس الأسس القاعدية للحس المشترك، خاصة بعد تحالف المال والأعمال والسياسة، وهذا المنطق الليبرالي المتوحش هو منطق الإقصاء والاستبعاد. وهو المنطق نفسه الذي يهدم المدرسة، ويهدم القيم، وبعبارة أخرى يهدم العمق الجمالي والوجودي للإنسان. هل تعكس سيادة الرداءة هذه، والمكرّسة إعلاميا، في وقت تتردّي وضعية المنظومة التعليمة، رغبة لدى النظام السياسي في الحيلولة دون اكتساب المجتمع لوعي ثقافي وسياسي؟ ما يحدث الآن في المغرب، مثله في ذلك مثل كل بلدان العالم الثالث، وخاصة العربية، هو تحول المشروع المجتمعي من العمل من أجل الحداثة والتقدم، حيث تنصهر رؤى الدولة والمجتمع، مع تدعيم مساحات التفاوض والنقد المزدوج، عبر مؤسسات الوساطة، ومؤسسات التنشئة الاجتماعية، أي الدولة من أجل المجتمع، وهو ما تُشكل نموذَجه الدولةُ الحامية، أو الدولة الأخلاقية، إلى الدولة ضد المجتمع. ولذلك، فأسُس السلطوية، أنثربولوجياً، تعتمد، كما قلت سابقا، قاعديا الحس المشترك، وتُعادي خطاب المعرفة والتنوير، بما هما بنْيات للنقد والتحليل والبناء، وهذه البنيات تعيش في تعارض تام مع بنيات السلطوية والاستبداد، وهي البنيات التي تشكل في الحقيقة منطقة التماس بين الدولة في صيغتها السلطوية والليبرالية المتوحشة المبنية على رأسمالية الرأسمال، والتي يصبح بموجبها المال هو قيمة القيم. لذلك، فتحالف المال والسياسة في هذا النموذج من الدول تحالفٌ في العمق بين الرداءة والاستعباد، من أجل سيولة الاستهلاك، حيث قيَم الاستحقاق، المجهود، العمل، تقابله قيم المضاربة، الزبونية، المحسويبة، الفساد، النصب، الاحتيال.. وهو ما يُحْدث قلبا للقيَم الفاعلة في المجتمع، وتصبح بذلك القيم الارتكاسية هي القيم المشكلة للبراديغم الاجتماعي. من هنا، يصبح الإعلام كأداة للعلاقة بين الدولة المجتمع، وفق أخلاقيات المهنة، وعلى رأسها الحياد والموضوعية، من جهة، وصناعة رأي عام تنويري وتقدمي، يعتمد العقل، أداة لصراع الدولة مع المجتمع، بشكل يجعله ينحو منحى الإسفاف والرداءة، حيث لا يجد المواطن/ المتلقي من فضاء لرد الفعل الارتكاسي، غير البحث عن فضاءات أخرى بديلة، وهنا تصبح شبكات التواصل الاجتماعي الفضاءَ المناسبَ، الذي يلتقي مع الإعلام الرسمي لكونهما لا ينفصلان عن ثقافة الحس المشترك، طالما أنهما يفتقدان معرفيا لأسس التلقي الحداثي والتنويري، بعدما فقدت المدرسة والجامعة وظيفتهما التنويرية بضرب الفكر النقدي والفلسفي في مقتل. أما على مستوى الإعلام الموازي الذي باتت تشغله الصحافة الإلكترونية، فهي في معظمها قد انساقت وراء المنطق نفسه من خلال البحث عن نسبة المشاهدة والتتبع، وفي انسياقها هذا سقطت في فخ الإسفاف والرداءة. وخير دليل على ذلك هو اعتمادها الحياة الخاصة للناس تشهيرا وعلى الفضائحي بشكل جعلها تسهم في صناعة المتلقي التلصصي، الذي يجد لذته في التلصص على حياة الناس الخاصة، متخذة من شبكات التواصل الاجتماعي إحدى آليات الانتشار الجماهيري، باعتبارها شبكات للأخبار والإعلام أيضا؛ لكنَّ الخطير في المسألة هو أن الاستمرار في قلب القيم، وهيمنة القوى الارتكاسية، سيجعل المجتمع الذي يعمل في الدولة الأخلاقية على حماية وحراسة القيم الفاعلة يتحول إلى مجتمع ارتكاسي. ألا تروْن أنّ المثقف المغربي يسهم بدوره في تكريس هذه الرداءة بترْك الساحة فارغة؟ أعتقد أنَّ المثقف المغربي يسهم بشكل مهم فيما يحصل اليوم من ارتداد لحركية المجتمع نحو الحداثة والتنوير، لكنه لا يتحمل كامل المسؤولية؛ فتحولات مفهوم المثقف العضوي في المجتمع تابع بشكل أو بآخر إلى تحولات أعمق، شملت كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية ومؤسسات الوساطة المدنية. وهي تحولات تتجاوز المنطق القُطري للدولة الوطنية في عصر العولمة والليبرالية المتوحشة، إذ إنَّ تراجُع سلطة المثقف لا يقتصر فقط على المغرب أو حتى الدول العربية الأخرى، بقدر ما يشمل حتى المثقف في الغرب، ربما نجد المرحلة الذهبية لهذا المثقف في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في سياق نظام القطبين. لكنْ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين، وفشل تجربة محور دول عدم الانحياز، وتوالي خيبات العالم تحت هيمنة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وأفول تجربة اليسار في العالم بشكل عام. لذلك، فإذا كان المثقف المغربي يتحمل المسؤولية، فهذا ناتج بكل تأكيد عن أفول مؤسسات الوساطة المدنية، وتآكل مؤسسات التنشئة الاجتماعية، لأسباب وعوامل تتحمل فيها الدولة مسؤولية أكبر من مسؤولية المثقف، وعليها أن تعيد الاعتبار إلى العلوم الاجتماعية والفلسفة والفكر النقدي عموما، وتشتغل وفق منطق الدولة الأخلاقية الحامية للمجتمع، وليس العكس. إننا اليوم مطالبون، مجتمعا ودولة، مثقفين وجماهير، بإعادة التفكير في عَقد اجتماعي جديد مبني على أسس المواطنة والحداثة والديمقراطية، وهذا لن يتم إلا برد الاعتبار إلى المدرسة. وعلى الصحافيين والإعلاميين، مثلهم في ذلك المثقفين ورجالات الدولة والنظام السياسي برمته، أن يعوا حجم التحديات والمخاطر التي تتهددنا.