واجهت الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية تحديات عدة نتيجة للتحولات التي بات يشهدها النظام الدولي في خضم تعاظم الاضطرابات الأمنية والتهديدات غير التقليدية، وتزايد طموحات قوى دولية أخرى (الصينوروسيا) للمنافسة على قيادته، ناهيك عن المعضلات الداخلية التي باتت تشهدها المؤسسات الأمريكية، بما فيها وزارة الدفاع (البنتاغون)، حيث بزغ اتجاه يرى أن المشكلات المؤسسية الداخلية تفرض قيودًا على تحركات واشنطن الخارجية. ومن أنصار هذا التيار ريتشارد هاس الذي ذهب في كتاب "السياسة الخارجية تبدأ في الداخل: قضية إعادة ترتيب البيت الأمريكي"، إلى أن تراجع النفوذ الخارجي لواشنطن مرتبط بالإخفاقات المؤسسية الداخلية والتي أدت إلى التآكل التدريجي لمقومات النفوذ الأمريكي عالميًّا. وفي هذا الصدد، يتناول التقرير الصادر عن وزارة الدفاع الأمريكية بعنوان: "إدارة التحديات الرئيسية لوزارة الدفاع.. العام المالي 2018" أهم التحديات التي تواجه الوزارة، وهي تلك التي لا تقتصر على البيئة الخارجية والنسق الدولي الذي تتعاطى معه الولايات المتحدة، ولكنها تمتد إلى المعطيات المؤسسية الداخلية الخاصة بالبنتاغون، والتي تؤثر بشكل أو بآخر على كفاءته. التهديدات الاستراتيجية الخارجية: تشكّلت في السنوات الأخيرة متغيرات عالمية ناشئة أثرت على استقرار النظام الدولي، وهو ما انعكس بدوره على مكانة الولايات المتحدة وسياستها الخارجية. ويعتقد صناع القرار الأمريكي والقادة في وزارة الدفاع أن واشنطن تواجه تحديات رئيسية متمثلة في: كوريا الشمالية، وروسيا، والصين، وإيران، والإرهاب العابر للحدود. وهي التحديات التي دفعت جوزيف دانفورد رئيس هيئة الأركان المشتركة، إلى القول بأن "الولايات المتحدة ليس لديها اليوم ترف مواجهة تحدٍّ واحد". وتتمثل أهم التهديدات الاستراتيجية التي يتوجب على صانع القرار الأمريكي مواجهتها خلال العام المقبل فيما يلي: أولًا- المشاكسة الكورية والإيرانية: يشير تقرير وزارة الدفاع إلى أن كوريا الشمالية باتت تمثل تهديدًا ملحًّا للسلم والأمن الدوليين. فخلال عام 2017، واصلت بيونج يانج تطوير أسلحتها النووية وصواريخها الباليستية، وهو ما بدا أنه يُشكل تهديدًا للولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين بشكل مباشر، حيث أجرت كوريا الشمالية في يوليو الماضي أول اختبار لصاروخ باليستي عابر للقارات، وهو الصاروخ "هواسونج – 14" الذي اعتبره عدد من الخبراء الأمريكيين قادرًا على الوصول إلى ولاية ألاسكاالأمريكية، واستمرارًا لهذا النهج أعلنت كوريا الشمالية في سبتمبر من العام الجاري عن اختبارها قنبلة هيدروجينية يمكن تحميلها على صاروخ بعيد المدى. ودفع التحدي الكوري الشمالي وزارة الدفاع الأمريكية إلى تأكيد تعهداتها الأمنية لحلفائها في آسيا؛ إذ تمتلك الولايات المتحدة وجودًا عسكريًّا في بعض دول المنطقة من خلال اتفاقيات مشتركة، على غرار الاتفاق مع كوريا الجنوبية لنشر صواريخ على أراضيها للدفاع عنها في مواجهة أي تهديدات من بيونج يانج. كما تُجري القوات الأمريكية تدريبات عسكرية مشتركة بصورة منتظمة مع بعض دول المنطقة لا سيما سول وطوكيو. وبموازاة ذلك، طالبت واشنطن من بكين، باعتبارها حليفًا هامًّا لكوريا الشمالية، بالضغط عليها لوقف برنامجها النووي. وتُقدم إيران نموذجًا آخر "للدول المشاكسة" التي تمثل تحديًا للولايات المتحدة، إذ تعتقد واشنطن أن الطموح النووي الإيراني لا يزل قائمًا، بحسب تقرير وزارة الدفاع، بالرغم من الاتفاق الذي توصلت إليه طهران مع المجموعة الدولية (5+1) في 14 يوليو 2015. كما أن السياسة الإقليمية لطهران ودعمها لنظام بشار الأسد في سوريا وحزب الله اللبناني، وكذلك علاقتها بجماعة الحوثيين في اليمن؛ تثير الكثير من الهواجس لدى واشنطن، ومن ثم استمرت الولايات المتحدة في سياستها الداعمة لحلفائها في الشرق الأوسط، وعقد صفقات تسليح معهم، كآلية لمواجهة التحدي الإيراني. ثانيًا- الطموح الروسي والصيني: يتعرّض التقرير لكلٍّ من روسياوالصين باعتبارهما من القوى المنافسة للولايات المتحدة، إذ إن موسكو تطمح إلى المشاركة في قيادة النظام الدولي مع التأكيد على حقها التاريخي في المناطق التي كانت واقعة داخل حدود الاتحاد السوفيتي السابق، وعدم السماح للدول الغربية بالتمدد في نطاقها الحيوي حتى لو استدعى ذلك استخدام الأدوات العسكرية التقليدية. ولعل هذا ما يُفسر سياسة روسيا تجاه أوكرانيا، بالإضافة إلى تنامي انخراطها في منطقة الشرق الأوسط، ومنازعتها الولايات المتحدة مكانتها بالمنطقة. من جانبها، واصلت الصين تعزيز قدراتها العسكرية في مجالات متنوعة، على غرار الصواريخ الباليستية، وصورايخ كروز، والغواصات الحربية، وأنظمة الحرب الإلكترونية والقدرات السيبرانية الهجومية. ولهذا يشير تقرير وزارة الدفاع الأمريكية إلى أن الإنفاق العسكري الصيني زاد بنسبة 7% تقريبًا في عام 2017. وتماشيًا مع تعزيز القدرات العسكرية، استمرت بكين في سياستها التوسعية في بحر الصين الجنوبي، ومن ثم إذكاء قضية التنازع على السيادة مع الدول المشاطئة للبحر. وفي السياق ذاته، أنشأت بكين أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي الواقعة في منطقة القرن الإفريقي ذات الأهمية الاستراتيجية. ثالثًا- الإرهاب العابر للحدود: وهو ما يعده التقرير التحدي الرئيسي للأمن القومي الأمريكي، لا سيما بعد أن نجح تنظيم "داعش" في جذب أعداد لا بأس بها من مواطني الدول الغربية للانضمام إليه. وبالرغم من الهزائم التي تعرض لها التنظيم في سوريا والعراق خلال الأشهر الأخيرة؛ فإن تهديد الإرهاب العابر للحدود سيظل قائمًا، خاصةً بعد عودة مقاتلي التنظيم إلى بلدانهم الأصلية. فضلًا عن تزايد ظهور نمط "الذئاب المنفردة" كأحد أنماط التهديدات الإرهابية للولايات المتحدة. تتعامل وزارة الدفاع الأمريكية مع هذه التهديدات عبر مشاركتها في العمليات العسكرية ضد تنظيم "داعش"، وتقديم الدعم للدول في مواجهة التنظيمات الإرهابية، على غرار دعم الحكومة الفلبينية في مواجهتها للتنظيم. كما انخرطت الوزارة في مبادرات للتعاون الأمني مع دول الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، أعلن البنتاغون في مايو 2017 عن اتفاقية تعاون دفاعي مع دولة الإمارات العربية المتحدة لمواجهة التهديدات الأمنية الإقليمية المشتركة وفي مقدمتها التهديدات الإرهابية. وتشكل عملية "حارس الحرية" أيضًا جزءًا من جهود وزارة الدفاع لمجابهة التهديدات الإرهابية في أفغانستان، وتقويض الملاذات الآمنة للتنظيمات الإرهابية هناك. التهديدات السيبرانية: يفترض التقرير أن الأمن السيبراني أحد التهديدات الرئيسية التي سيتعين على الولايات المتحدة خلال السنوات القادمة مواجهتها؛ إذ إن الهجمات السيبرانية التي تعرض لها الحزب الديمقراطي خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016 كشفت عن احتماليةٍ قائمةٍ لتعرض وزارة الدفاع لهجمات سيبرانية مؤثرة. وترتبط هذه الاحتمالية بشكل أو بآخر باستثمار خصوم واشنطن الكثيف في تطوير قدراتهم السيبرانية، وتوظيفها في الصراع معها. تبنى البنتاغون إجراءات، بحسب التقرير، للتعاطي مع التهديدات السيبرانية، فمن جهة أولى دفع نحو توحيد قيادة مواجهة التهديدات السيبرانية، وقد عبر عن ذلك التوجه قانون تفويض الدفاع الوطني للعام المالي 2017 الذي طالب بإنشاء قيادة موحدة بوزارة الدفاع للعمليات السيبرانية. ومن جهة ثانية، لجأت وزارة الدفاع إلى توحيد نظم تكنولوجيا المعلومات الخاصة بها من أجل إنشاء بيئة أمنية موحدة، وتحسين إدارة منظومة المعلومات، علاوة على الانتقال إلى الحوسبة السحابية، وكانت حزم الأمن الإقليمية المشتركة Joint Regional Security Stacks، جزءًا من مقاربة الوزارة، وهي عبارة عن مجموعة من المعدات ذات تطبيقات شبكية توفر قدرات شبكية ومنصات لمعالجة البيانات، مثل: جدران الحماية، والكشف عن التسلل والوقاية منه، وحلول إدارة المخاطر في المؤسسة. كما عززت الوزارة من عمليات الرقابة والمراجعة لأنظمتها المعلوماتية للتأكد من عدم اختراقها، خاصة أثناء الارتباط بموردين خارجيين لبعض الخدمات. ومن جهة ثالثة وأخيرة، تستدعي وزارة الدفاع فكرة بناء التحالف الدولي كأحد محاور مواجهة التهديدات السيبرانية. وفي هذا الإطار، تضمنت استراتيجية وزارة الدفاع السيبرانية لعام 2015 هدفًا لبناء تحالفات وشراكات دولية والحفاظ عليها لردع التهديدات السيبرانية المشتركة، وزيادة الأمن والاستقرار الدوليين. المعضلات الداخلية تُعاني وزارة الدفاع الأمريكية من إشكاليات داخلية تؤثر على كفاءتها وقدرتها على مواجهة التهديدات الخارجية، وبعض هذه الإشكاليات نابع من طبيعة العمليات البيروقراطية داخلها، والتي تكلفها المزيد من الموارد. والبعض الآخر مرتبط بالموارد البشرية والمادية المتاحة لها، وقدرتها على تطوير هذه الموارد. وعطفًا على هذا، يتناول التقرير عدة معضلات داخلية رئيسية يتعين على وزارة الدفاع التعامل معها، ويتمثل أهم هذه المعضلات فيما يلي: أولًا- مشتريات الأسلحة والمعدات والإدارة المالية، وهي من المجالات ذات المخاطر العالية لوزارة الدفاع، فالعديد من برامج الوزارة، وفقًا للتقرير، لا تتناسب مع التكلفة والجدول الزمني وتوقعات الأداء. ونتيجة لذلك، تدفع الوزارة بانتظام أكثر مما كان متوقعًا، وتشتري أقل من المتوقع. وفي بعض الحالات، توفر قدرة أقل مما تتطلبه عقودها. وبالإضافة إلى ذلك، كثيرًا ما يركز نظام اقتناء الأنظمة الدفاعية على التكاليف في الأجل القريب، والجدول الزمني وذلك على حساب (وعدم الأخذ في الاعتبار) التكاليف الطويلة الأجل ذات الأهمية في مراحل التشغيل والصيانة لأنظمة التسليح. ونتيجة لهذه المعطيات، سعى الكونجرس إلى إدخال إصلاحات على عمليات شراء الأسلحة والمعدات، وهي إصلاحات استهدفت تبسيط عمليات الشراء، والحد من الأوراق غير الضرورية والأعباء التنظيمية. كما أنشأ قانون تفويض الدفاع الوطني للعام المالي 2017 منصب كبير موظفي الإدارة بوزارة الدفاع، ونصّ على تفعيل مهامه اعتبارًا من فبراير 2018 ليكون مسئولًا عن جودة وإنتاجية العمليات التجارية لوزارة الدفاع، وخفض تكلفة تلك العمليات. وفي السياق ذاته، يُشير التقرير إلى الإدارة المالية لوزارة الدفاع كإحدى القضايا الملحة. فعلى مدار سنوات كان الخبراء يبدون ملاحظاتهم حول أوجه ضعف الإدارة المالية والمحاسبية للبنتاغون، ولعل هذا ما جعل قيادات الوزارة يقرون بضرورة الشروع في إجراءات تصحيحية للإدارة المالية لأنه بدونها ستظل البيانات المالية لها تعاني من معضلة مصداقية، فضلًا عن أن هذا الأمر سيؤثر على قدرة الوزارة على اتخاذ القرارات المالية والإدارية المناسبة. ثانيًا- المعضلة الأخلاقية: ارتبطت هذه المعضلة بالقضايا الأخلاقية التي تثار بين الحين والآخر داخل المؤسسة العسكرية، والتي كان آخرها في مارس 2017 حينما كشفت الوزارة عن تورط بعض الجنود في تبادل صور "عارية" لزميلاتهم على مواقع للتواصل الاجتماعي، وهو الحادث الذي دفع وزير الدفاع الأمريكي "جيمس ماتيس" إلى القول بأنه "انتهاك للقيم الأساسية لوزارة الدفاع". ويكتسب التعامل مع المعضلة الأخلاقية أهمية لأن الانتهاكات التي تحدث تؤثر على صورة المؤسسة وتقوض ثقة الجمهور فيها وإدراكهم لمدى نزاهة وأخلاقية العاملين بها. ومن هذا المنطلق، يؤكد التقرير أهمية تعزيز سلطات وصلاحيات وتمويل الجهات الإشرافية داخل الوزارة، والمسئولة عن التفتيش والتحقيق في القضايا والانتهاكات الأخلاقية، والاستدعاء الدائم للمدونات الأخلاقية والسلوكية للعاملين بالبنتاغون وضمان التزامهم بها. ثالثًا- الرعاية الصحية: على الرغم من إشارة التقرير الصادر عن فريق استعراض ومراجعة النظام الصحي العسكري في أغسطس 2014 إلى "توفير النظام الصحي رعاية جيدة وآمنة ومناسبة للعاملين بالوزارة"، فإن التقرير أشار -في الوقت ذاته- إلى حاجة نظام الرعاية الصحية إلى التطوير في بعض البنود لضمان الوصول إلى مستويات أعلى من الجودة. ولعل هذا ما أكده قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2016 الذي نص على متطلبات للبنتاغون أبرزت أهمية جودة الرعاية الصحية. ويطرح تقرير وزارة الدفاع قضايا رئيسية للتعامل معها خلال عام 2018، ومنها على سبيل المثال، معالجة الصدمات النفسية التي يتعرض لها المقاتلون، وارتفاع معدلات الانتحار والذي حفز الوزارة على إنشاء مكتب للوقاية من الانتحار في 2011، ناهيك عن قضايا الاحتيال، لا سيما في الأدوية، والحفاظ على أمن وخصوصية المعلومات المدرجة في السجلات الصحية الإلكترونية وضمان عدم تعرضها للاختراق. رابعًا- التحديث البشري والمادي: فقد تنامت خلال السنوات الماضية الحاجة إلى تحديث وتطوير القدرات البشرية لوزارة الدفاع الأمريكية، إذ تواجه الولايات المتحدة، بحسب التقرير، تحديًا على مستوى إعداد وتدريب الأفراد في ظل عدم كفاية التمويل أو حتى الوقت المخصص للتدريب. وقد أشار "ماتيس" إلى هذه المعضلة حينما صرح في فبراير 2017 بأن "الغاية القصوى لوزارة الدفاع هي بناء قوة مشتركة مسلحة أكبر وأوسع وأكثر قدرة"، وهو التصريح الذي كان بمثابة إعادة تأكيد على مركزية تطوير القدرات البشرية. ويذكر التقرير أن الولايات المتحدة تواجه أيضًا تحديًا فيما يخص التسليح والمعدات المستخدمة، حيث أشار وزير الدفاع في شهادته أمام لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ بشأن ميزانية السنة المالية 2018 إلى أن "ستة عشر عامًا من الصراع المستمر استنفدت معداتنا بشكل أسرع مما كان مخططًا له". وبالتالي مثلت الحاجة إلى تحديث الأسلحة محركًا أساسيًّا، وتحديًا -في الوقت ذاته- لوزارة الدفاع. وفي إطار تحديث الأنظمة التسليحية لوزارة الدفاع، تحظى الأسلحة النووية بأهمية جوهرية لاعتبارات متعلقة بطبيعة المتغيرات الدولية، وبزوغ قوى دولية وإقليمية لديها أسلحتها النووية، أو تطمح إلى امتلاكها، وهو ما يؤثر على المصالح الأمريكية. وفي خضم هذه المتغيرات تدرك وزارة الدفاع أهمية تحديث الترسانة النووية الأمريكية، وهو التحديث الذي يحتاج -وفقًا لتقديرات مكتب الميزانية التابع للكونجرس- إلى حوالي 267 مليار دولار. وختامًا، يخلص التقرير إلى أن الولايات المتحدة ستحتاج خلال السنوات القادمة إلى التدقيق في متطلبات واحتياجات وزارة الدفاع لتجاوز التحديات الداخلية التي تواجهها، ودعم قدرة البنتاغون على الابتكار والتطوير ومن ثم تدعيم قدرتها على مجابهة التهديدات الخارجية التي لم تعد قاصرة على الأنماط التقليدية، ولكنها امتدت إلى أنماط أخرى غير تقليدية، من قبيل الحروب السيبرانية. *مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة