يوم 16 ماي 2003 اهتزّ المغرب على وقْع تفجيرات إرهابية نُفذت بمدينة الدارالبيضاء. كانت التفجيرات صدمة قوية للمغاربة، ودفعتْ الدولة إلى خوْض حرب على الإرهاب، موازية للحرب الأمنية، متمثلة في إعادة هيكلة الحقل الديني بالمملكة لسدِّ المنافذ التي يتسلل منها الخطاب الديني المتطرف إلى عقول المغاربة، والذي حوَّل شبابا من حي سيدي مومن إلى قنابل موقوتة انفجرت في قلب العاصمة الاقتصادية للمملكة يوم 16 مايو 2003. مشروع إصلاح الحقل الديني بالمغرب، الذي وضع الملك إطاره العام في خطاب العرش، الذي ألقاه في السنة نفسها التي وقعت فيها تفجيرات الدارالبيضاء، تمثل، أساسا، في هيكلة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وتحسين دور المجالس العلمية، وتأطير عشرات الآلاف من المساجد الموجودة في المملكة، بهدف توحيد الخطاب الديني... فما التقييم العام لحصيلة إصلاح الحقل الديني في المغرب بعد مُضيِّ حواليْ عِقْدٍ ونيّف على الشروع في تنفيذه؟ وهل تحققتْ أهدافه؟ ضريف: لا يجب أن نغرق في المثالية يشير محمد ضريف، الباحث المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية، إلى أنّ تقييم حصيلة الإصلاح الديني الذي انخرط فيه المغرب يجب أن يراعَى فيه وجودُ موقفين مختلفيْن؛ الموقف الأوّل هو موقف الفاعلين الدينيّين الرسميين، الذين يروْن أنَّ تجربة إصلاح الحقل الديني تُعدّ نموذجا فريدا وصالحا، ليسَ للمغرب فحسب، بل لدول أخرى. مقابل هذا الرأي، هناك رأيٌ مخالف صادر عن فاعلين دينيّين لديهم نظرة مغايرة لنظرة الفاعلين الدينيين الرسميين، وينتقدون سياسة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في إصلاح الحقل الديني، متهمين إياها بارتكاب تجاوزات، خاصّة فيما يتعلق بتوقيف القيّمين الدينيين، وتضييق هامش الحرية الممنوحة للوعاظ والخطباء. وللقيام بتقييم موضوعي لحصيلة إصلاح الحقل الديني، يرى محمد ضريف أنَّ التقييم يجبُ أن ينطلق من طرْح سؤال محوري، هو: هل السياسة الدينية في المغرب خاضعة لمعايير السياسات العمومية التي لها أهداف محدّدة؟ ويجيب عن هذا السؤال بالقول إنّ أمرَ توفّر معايير السياسات العمومية في السياسة الدينية المتّبعة غير محسوم. ويوضح ضريف أنَّ الحقل الديني، وإنْ كانَ تدبيره يتمّ من طرف وزارة، هي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وحديث الوزير عن حجم النفقات المالية الهائلة والوسائل المرصودة لإنجاح ورش إصلاح الحقل الديني، فإنَّ هناك سؤالا يفرض نفسه، هو: "هل يمكن أن نتأكّدَ من نسبة الأهداف المُحققة، كما هو الحال بالنسبة إلى باقي السياسات العمومية التي تضع أهدافا محدّدة؟. وبحثا عن جواب للسؤال الذي طرحه، يعود ضريف إلى الهدفيْن الأساسيين لمشروع إصلاح الحقل الديني في المغرب، والمتمثلين في تحصين الهوية الدينية للمغاربة، القائمة على اتباع المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف الجنيدي، ثم مكافحة التطرف، ليخلُص إلى أنَّ هذين الهدفيْن لم يتحقّقا. "تقول وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إنها تعمل على تحصين الهوية الدينية للمغاربة بمحاربة التشيع والإلحاد. ولكنّ المثير للانتباه هو أنَّ التشيّع انتشر أكثر، والارتداد عن الدين الإسلامي تنامى، وهذا يعني أنَّ الأمور ليست على ما يرام بخصوص تحصين الهوية الدينية للمغاربة"، يقول ضريف. ويضيف أنَّ الهدف الثاني لمشروع إصلاح الحقل الديني، المتمثل في محاربة التطرف، لم يتحقق بدوره، "بل إننا نفاجأ بأنَّ الخطاب المتطرف يتبناه أئمة ودعاة، وهذا أمر غريب، بل إنَّ المغربَ أصبح يُنظر إليه كبلد مُصدّر للإرهاب، بسبب انضمام أعداد من شبابه إلى التنظيمات الإرهابية، وتورّط آخرين في عمليات إرهابية"، يقول ضريف، مضيفا "يجب أن ننظر إلى الأمور بتبصّر وألا نغرق في المثالية". تغيير وظيفة وزارة الأوقاف ما أشار إليه محمد ضريف، من كون عدد معتنقي المذهب الشيعي في تزايد، يطرحُ سؤالا حول ما إنْ كان عدد الشيعة المغاربة يتزايد، أمْ أنَّ توسّع هامش حرية التعبير عن الرأي، وما تتيحه الشبكات الاجتماعية والمواقع الإلكترونية من إمكانيات هائلة للتواصل، هو السبب وراء الإيحاء بتزايد عددهم. وجوابا عن هذا السؤال، يقول صاحب كتاب "الحقل الديني في المغرب"، الصادر مؤخرا، "صحيح أنه كان هناك خوف من جهر الشيعة المغاربة باتباع هذا المذهب، ولكنْ لا يجب أنْ ننكر أنّ هناك عائلات في المغرب معروفة بالتشيع، ثم إنّ هناك متشيّعين مغاربة في المهجر، لهم تأثير على مغاربة الداخل"، مضيفا "ثم لا يجب أن ننسى أنَّ المتشيعين يمارسون نوعا من التقيّة، ريثما تتوضح الرؤية، والشيء ذاته بالنسبة إلى المتمسّحين". ولكي يُثمر إصلاح الحقل الديني في المغرب نتائجَ ملموسة، يرى محمد ضريف أنَّ على وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أنْ تغيّر وظيفتها، بعدَم حصْرها فقط في تدبير المساجد، "لأن الإرهاب، مثلا، أضحى يُنتَج خارج المساجد، بعدما كانت الخلايا الإرهابية في السابق تقوم بعمليات الاستقطاب من داخل المساجد". عيدودي: النموذج المغربي أثبت ذاته في مقابل الرأي الذي عبّر عنه محمد ضريف، يرى عبد النبي عيدودي، الباحث المتخصص في الحقل الديني بالمغرب، أنَّ إصلاح الحقل الديني في المغرب حقّق أهدافا مهمة، معتبرا أنَّ التطرف الموجود في المغرب أقلُّ عنفا مقارنة بعدد من دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط والعالم الإسلامي. وعزا عيدودي سبب تراجُع حدّة وعنف التطرف في المغرب إلى هيكلة الحقل الديني التي تشهدها المملكة، وانتقال المؤسسة الدينية من لعب دورها التقليدي إلى التحديث، حيث جرتْ إعادة هيكلة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمجالس العلمية التابعة لها، كما تمّ توحيد الخطاب الديني. واعتبر عيدودي أنَّ هذه العواملَ "أدّت إلى التخفيف من حدّة التطرّق والغلوّ، عكس دول أخرى في المنطقة يسودها تطرف عنيف، هو نتاج الخطاب الديني غير الموحّد"، مضيفا أن "النموذج الديني المغربي استطاع إثبات ذاته، داخليا وخارجيا، وأثبت قابلتيه لاستيعاب الأفكار، رغم اختلافها وتحويلها إلى أفكار قابلة للتداول". التشيع السياسي مصدر الخطر وبخصوص حماية الهوية الدينية للمغاربة، قلّل عيدودي من تأثير الشيعة على المغاربة، قائلا إن "التأصيل العَقدي للتشيع كعقيدة لا وجود له في المغرب، لأن المتشيعين يؤمنون بفكرة آل البيت، والنسب الشريف الذي يتحدر منه أمير المؤمنين"، لكنّه حذّر من الخطر الذي يشكّله الشيعة الذين اختاروا المذهب الشيعي كفلسفة سياسية. واعتبر الباحث المتخصص في الحقل الديني بالمغرب أنَّ التشيع السياسي هو "مشروع فارسي يتم تصديره إلى مختلف بلدان العالم الإسلامي، وتُخصّص له أموال طائلة وجيوش إلكترونية تهاجم المذهب السني على مستوى العقيدة، من خلال الطعن في أئمّتنا وعلمائنا". وأضاف أنَّ المغرب محصّن، بفضل توحيد الخطاب الديني، وأوضح قائلا إن "خطبة الجمعة، مثلا، هي خُطبة مُوحّدة، وإن اختلفت مواضيعها، لأنها صادرة عن مرجعية موحّدة، وليس كما هو الحال في بلدان أخرى، حيث تلقى خطب جمعة ذات مرجعية سنية وشيعية". وبالرغم من أنَّ المغرب أصبح "يصدّر" نموذجه الديني إلى دول أخرى، خاصة في إفريقيا، من خلال تكوين الأئمة والمرشدين الدينيين الأجانب، يرى عيدودي أنَّ على المغرب أنْ يمضي خطوات كبرى إلى الأمام، لتوسيع دائرة انتشار نموذجه الديني، على غرار ما تقوم به إيران، التي تستغل جميع الوسائل من أجل ترويج المذهب الشيعي. وإذا كان هناك فاعلون دينيون ينتقدون بشدة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ويتهمونها بالتضييق على الخطباء والوعاظ، من خلال عزْل وتوقيف من يخالف منهم توجّهاتها، فإن عيدودي يعتبر أنَّ قرار الوزارة إبعاد شؤون السياسة عن منابر المساجد قرار صائب، "لأنّ هذا الخلط بين ما هو ديني وسياسي هو الذي أوْصل بلدانا أخرى تعرف صراعات وحروبا إلى ما هي عليه الآن"، يضيف عيدودي، مشيرا إلى أن "المؤسسة الدينية في المغرب ظلت دائما في منأى عن أي صراعات سياسية، وهذا شيء يُحسب لها، ويجب على الدولة أنْ تمضي في هذا الاتجاه، وأنْ تحمي المؤسسة الدينية من أيِّ اختراقات".