من الصعب أن نتصور باحثا رصينا ومتأنيا من طينة الأستاذ احمد التوفيق، سبر أغوار التاريخ المغربي المعاصر واختبر دروبه وخاض في مضامينه ومضانه، واستنطق مكنوناته... أنه بعد هذا كله، يصبح المغاربة المجاهدون في القرن 19م، سببا في نكبة البلاد وسقوطها المدوي تحت وقع حوافر ومدافع وطائرات المستعمر. في غياب النص الكامل لمداخلة الأستاذ الباحث، وفي غياب حيثيات وسياقات فكرته التي روجت لها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.. تبقى هاته الملاحظات من مؤرخ آلمه وحز في نفسه وضميره، الترويج لأفكار وخلاصات تضرب في العمق مصداقية علم التاريخ ومرتكزات التاريخ الوطني بصفة خاصة. أولا: - الجهاد كمصطلح وعقيدة وممارسة، من صميم القاموس الديني والسياسي المغربي منذ القدم وحتى القرن 19م وما بعده. إنه مواجهة مادية وحضارية وروحية لمخططات التغلغل الاستعماري والأمبريالي، في وقت لم يكن فيه مصطلح آخر يفي بالغرض، من قبيل المقاومة أو النضال. بل استعمل الجهاد من طرف ملوك المغرب ونخبه في خطاباتهم ومنشوراتهم ودعواتهم للتعبئة لصد الأخطار وإفشال الاطماع. وبالجهاد قامت دول المغرب وتعاقبت على حكمه وتوسيع دائرة نفوذه الحضاري (المرابطون، الموحدون، السعديون، العلويون.) وأن السلطان المولى عبد العزيز تم إسقاط بيعته وخلعه لأنه تقاعس عن الجهاد. وبويع خلفا له مولاي عبد الحفيظ كأمير وسلطان للجهاد والمجاهدين. ثانيا: - الذي روج لفكرة عدم نجاعة الجهاد في غياب شرط التكافؤ، هو المؤرخ والموظف المخزني احمد بن خالد الناصري في كتابه الاستقصاء. ج9 معبرا بذلك عن قناعات وأفكار فئة اجتماعية جديدة وقليلة من رجال المخزن والوسطاء والتجار والسماسرة وبعض الفقهاء والمتصوفين المدافعين عن نفوذهم ومصالحهم.. إلا أن هذا الموقف بقي في نطاق ضيق، وقد تبلور أساسا بعد الهزائم المروعة للمغاربة في معركة إسلي سنة 1844م وحرب تطوان 59/1860م وما تلاهما من اتفاقيات غير متكافئة اقتصاديا وقانونيا وسياديا. وجاء مؤتمر مدريد 1880 ومؤتمر الجزيرة الخضراء 1906 ليدولا القضية المغربية ويقضي على ما تبقى للمغرب من سيادة حقيقية والتي أصبحت رهينة التوافقات والترضيات الامبريالية خاصة بين فرنسا وأنجلترا وألمانيا. فأين هي يا ترى مسؤوليات الجهاد والمجاهدين في هذا وغيره. ثالثا: - إن موقف المهادنة مع المستعمر أو ما يمكن وصفه بالبراغماتية السياسية والدينية قابلته مواقف (بصيغة الجمع) مواقف مناهضة ورافضة لمنطق العجز و التطبيع والاستسلام. ومدافعة عن مبدأ راسخ ومترسخ في عقيدة المغرب الحضارية على امتداد قرون. وأنه حيث تكون دواعي ومقدمات الغزو والاحتلال، يجب أن تقام وتنصب منصات ودروع المدافعة والجهاد. لأن الإنسان، أي إنسان وحتى الحيوان كيفما كانت إمكانياته وقدراته، لا يمكنه أن يقف مكتوف الأيدي إذا مست سلامته أو عرضه أو ماله وبالأحرى أرضه ومقدساته.. فلم يكن صدفة أن سارع المغاربة لصد هجمات الغزاة طوال القرن 19م وبعده وكذلك على امتداد التراب الوطني بزعامة قياداته الشريفة السلطانية والقبلية والعلمية والصوفية. تمثل ذلك: - مساندة المغاربة الرسمية والشعبية لثورة عبد القادر الجزائري ضد المستعمر. - التصدي لجيوش الاحتلال في معركة إسلي. - تعدد الزعامات الجهادية الصوفية شرق المغرب وجنوبه أمثال الشيخ بومعزة الوزاني، والمجاهد بوعمامة الشيخي (الذي تجنى عليه المرحوم عبد الوهاب بن منصور) وصولا إلى أسرة الشيخ ماء العينين بالصحراء المغربية.. وهي أعمال بطولية كبدت المستعمر خسائر فادحة، إلا أن فقيها مثل الحجوي اعتبرها، سيرا على نهج الناصري، مغامرات انتحارية لن تجدي نفعا وأنه من الأحسن تقديم البلاد إلى المستعمر على "مائدة المشوي" أو هكذا زعم. رابعا:- وإذا سايرنا هذا المنطق الإنهزامي والتلفيقي، ماذا بقي لنا أن ندرس لأبنائنا في كتب التاريخ الوطني عن هاته الحقبة ودفاع المغاربة المستميت عن هويتهم الحضارية. من ذلك: - جهاد السلطان مولاي الحسن الأول ضد أشكال التوغل والتآمر الاستعماري من خلال "الحركات الحسنية". - الأعمال والمواقف البطولية للمجاهدين المغاربة من طينة موحا أوحمو الزياني وعبد الكريم الخطابي رحمة الله تعالى على جميعهم. وهل يحق لنا أن نمجد ونحتفي بمعارك المغاربة الجهادية الخالدة: معركة بوكافر، معركة الهري، معركة أنوال، وصولا إلى ملحمة وادي زم. - جهاد الأسرة الملكية الشريفة بتوافق مع كبار مجاهدي الحركة الوطنية .. والذي كلفهم العرش والنفي والإبعاد. بل أين نضع منطوق ومفهوم قولة المغفور له محمد الخامس أبو الوطنية والحرية والاستقلال .. رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. ما هو العنوان الأبرز الذي علينا أن نسوقه عن أصحاب هذا الاكتشاف الغريب عندما نربط بين استعمار العالم في أسيا وإفريقيا وبين ما اعتبر مغامرات وتهور الجهاد والمجاهدين؟!. بل كيف نفسر انعتاق هاته الشعوب والبلدان ومنها المغرب من ربقة العبودية والحجر والاستغلال.. هل بالمسح على الخفين، وتعفير الجبين، والقبلة بين العينين .. أم بآلاف الأرواح التي بذلت نفسها في سبيل الله والوطن والحرية وكرامة المواطن. وخلاصة القول، أنه إذا كان بالإمكان أن نتفهم – ولو على مضض- بعضا من إكراهات الأستاذ المحاضر الوقتية والموضوعاتية والبرغماتية كما فعل ذلك قبله المؤرخ الناصري وفق صيغة تلفيقية ولا أقول توفيقية، تقوم على ثلاثة أوجه .. - وجه الفقه والحكم الشرعي. - وجه الرأي والسياسة. - وجه الفهم عن الله تعالى... إلا أن هذا لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يصوغ لنا إسقاط جميع موبقات آفة العصر الممثلة في التطرف والإنغلاق والإرهاب والكراهية والقتل والدمار.. أن نسقط كل هذا الخزي على سجل حافل من التراث الوطني المقدس لطالما تغنى الأستاذ بأمجاده وإنجازاته في أكثر من محفل وعلى صفحات أكثر من مجلد في التاريخ والحضارة والتراث.!؟ ملاحظة : للتوسع في موضوع جهاد العلماء والمتصوفة في المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء في القرن 19م يرجى مراجعة كتابنا: الإحياء الصوفي. ج 3 (2006) منشورات وزارة الأوقاف الرباط.