لا نبالغ في القول حين نطلق وصف الأزمة على حالة الأمة، وإن اختلفت الرؤى حول نوعيتها، هل هي أزمة سياسية، أم اجتماعية ، أم اقتصادية ، أم فكرية، أم هي مزيج من هذه الأزمات معا في آن، لكن بقليل من التأمل واستقراء للأوضاع ورد الأمور إلى أصولها ، فيمكن أن نرد كل هذه الأزمات التي نتخبط فيها وأن ندرجها فيما يمكن تسميته بالأزمة المنهجية، وإن كان مصطلحا قل تداوله وقل ربطه بالأزمة، لكنه يعبر حقا عنها، وحتى إن حاولنا رد أزمتنا الحقيقية إلى الأزمة الفكرية فهي في الواقع تعود إلى أزمة منهجية بالأساس، والمنهجية هي علم بيان الطريق ؛ لذا كان الوعي المنهجي لازما لابتغاء الرشد واجتناب التيه والضلال في عبور هذا الطريق والوصول إلى منتهاه بأيسر سبيل، ولأن تعاملنا مع مصادر الفكر الإسلامي وُسم –في أغلب أحيانه- بالعشوائية والتخبط لغياب المنهجية في تعاملنا هذا ، برزت على السطح مظاهر خلل تنبئ بأزمة حقيقية هو ما جعلها تشكل عاملا أساسيا فيها، ولا يمكن الخروج منها إلا ببناء وعي منهجي حقيقي. لأجل ذلك احتل موضوع المنهجية مركز الصدارة في اهتمام المعهد العالمي للفكر الإسلامي من خلال مشروعه "إسلامية المعرفة"، إذ اعتُبِر المخرج والخلاص من الأزمة التي تتخبط فيها الأمة ولا زالت ما دمنا مفتقدين لهذا الوعي المنهجي، فبالنظر إلى تعاملنا مع مصادر المعرفة الإسلامية وأدواتها نجد أنه بدوره يعاني من أزمة تتجلى في عدة مظاهر، وهنا يمكن أن نتساءل : ما هي مظاهر و تمثلاث هذه الأزمة في الفكر الإسلامي؟ وكيف يسهم بناء الوعي المنهجي في معالجتها وحلها؟ يمكن أن نحدد مظاهر الأزمة في نقاط أساسية هي : - أزمة التعامل مع النص (الوحي) كنص أو ما أسماه الشيخ محمد الغزالي بالقراءة العضين، حيث كان الاهتمام بتفسير عموم آيات القرآن وإغفال النظر للقضايا العامة التي تناولتها آياته، حيث غلب التفسير الموضِعي بدل التفسير الموضُوعي الذي يهدف للإجابة على الأسئلة الكبرى والقضايا الأساسية، فمادة التفسير واسعة وكان يمكن استثمارها للإجابة على قضايا الواقع، لكن شيوع الأول أحدث جمودا في علوم القرآن ككل - الفصل بين الكتاب والسنة (الوحي الظاهر والخفي بتعبير د. فتحي حسن ملكاوي) واعتبار السنة مصدرا ثانيا من مصادر التشريع، في حين أن الذكر في الآية القرآنية {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} هو قرآن وسنة كما يؤكد ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام فالسنة لا يمكن فصلها عن القرآن، ومن الخطأ القول بأن الرسول لم يفسر القرآن بأكمله لأن سنته صلى الله عليه وسلم كلها –ما كان باعتباره نبيا وليس بشرا عاديا- هي بيان له، لكن الفصل بينهما أدى إلى توسيع دائرة المتشابه وتضييق المحكم و توسيع دائرة الناسخ والمنسوخ والتأويل وانتشار التفسير بالرأي، في حين أن الالتفات إلى السنة والنظر للذكر دون الفصل بين القرآن والسنة سيجعلنا نصل إلى الفهم السليم لآيات القرآن الكريم بناسخها ومنسوخا ومحكمها و متشابهها، فينبغي قراءة القرآن في ضوء السنة وربط قضايا السنة بأصولها في القرآن. هذا من جهة ومن جهة أخرى يمكن أن نضيف أيضا الخلل في رؤية العالم: بالافتقاد إلى خاصية الشمول التي تستند إليها في منهج التعامل مع أي قضية، فالنظرة الشمولية ضرورية في معالجتها ومن ذلك ضرورة الجمع بين عالمي الغيب والشهادة، وجوانب النفع والضر، وواقع الحال مع اعتبار المآل، والآثار العاجلة والآجلة، فيكون الخلل المنهجي هنا في الاقتصار على جانب منها دون الآخر، كذلك فإن البحث عن الحقيقة في مجالات المعرفة ظل في حيز ضيق اذ اقتصر على التراث عموما وأهمل المستجدات وعلى الفقه خصوصا دون استيعاب مصادر التأسيس (الكتاب والسنة) وعلى جانب النصي الظاهري تحديدا دون النظر إلى مجالات التطبيق في مسائل الكون والعمران، إضافة إلى تجزئة النظر والبحث في القضايا والمشكلات وتقدير الأحكام فيها، حيث تنزل الجزئيات منزلة الكليات الأساسيات ويشتد التعصب والشقاق لها رغم كونها لا تعدو مسائل فرعية اجتهادية يختلف تقديرها، وإن هذا لدليل على سوء تقدير الأشياء بأحجامها الحقيقية وأهميتها وهو ما ينم عن ضعف في فقه الأولويات الذي به ترتب الأمور حسب أهميتها وتحقيقها لمصالح الأمة ولا ننسى كذلك الخلل في فهم والتعامل مع الواقع : بإهمال اعتباره والإغراق في التجريد البعيد عن الواقع أو بإهمال واقع الحياة ومتطلبات المجتمع البشري، ويتعدى ذلك الإهمال فهم الواقع المحلي للمسلمين إلى فهم الواقع الدولي المحيط بهم، لننتهي إلى الجهل بالواقع والعجز عن التعامل معه في حين أن الغرب لم ينجزوا حضارتهم إلا بعد فهمهم واقعهم واستيعابهم له... سبل العلاج : إن بناء الوعي المنهجي هو أول خطوة لعلاج هذه الأزمة؛ لكن أي وعي منهجي نعني؟، إننا نجد في كتابات دعاة الاصلاح ارتباكا في التوجيه للمنهجية الأمثل، فهناك من دعا إلى منهج سلفي أساسه تقديس الماضي والسلف قاطع لأي صلة وصل مع مناهج الغربيين مترصدا أخطاءها ومناقضا لنفسه في آن حين يتهافت على منجزاتها، وآخرون ممن كانت دعوتهم لمنهج حديث يضرب عرض الحائط كل ماله علاقة بتراثنا وتاريخنا مرتميا بذلك في أحضان الحضارة الغربية منصهرا فيها آخذا لها بكل محاسنها ومساوئها. إن أخطر ارتباك ممكن أن نقع فيه هو الارتباك في المنهج، فإن افتقادنا للوعي المنهجي يجعلنا ننحرف بالمنهجية ووظيفتها بل إنه قد يجعلنا نطلق اسم المنهج على ما لا يمت بأي صلة بها، فالمنهجية كما ذكرنا بداية هي ابتغاء الرشد لتبين معالم الطريق،والوعي المنهجي على ذلك هو الحالة التي تعبر عن إدراك الواقع القائم ومنهج تغييره إلى الواقع المنشود ، ويتطلب وضوحا في خطوات البناء المنهجي وفي السعي للانتقال من غاية إسلامية المعرفة إلى الأخذ بأسبابها لتنزيلها، فنحن بحاجة إلى بناء المنهجية المعرفية الإسلامية التي هي منهجية في التفكير تستند إلى رؤية كونية قرآنية لتنتج معرفة إسلامية أصيلة مستجدة ومستجيبة لحالات وقضايا العصر، منهجية لها مصدرين لا ثالث لهما : كتابي الله المنظور والمسطور وأداتين لا ثالث لهما أيضا هما : العقل والحس وقائمة على مبدأ التكامل لأن الفصل بين أي من مكوناتها لا ينتج المنهجية المطلوبة. فالتكامل المعرفي قاعدة من قواعد المنهجية الإسلامية القائمة على التكامل بين المصادر والأدوات، فبحضور الوعي المنهجي تحل الأزمة المنهجية، لأن غياب المنهجية ادى إلى تضخم الفكر الإسلامي حد التناقض، فالتضخم لا يكون دائما دليلا للغنى والثراء بل هو في نفس الوقت دليل على أزمة حقيقية. وبناء هذه المنهجية يكون بإعمال العقل في مصادر المعرفة عندنا ومحاولة استخراج أسسها منها، ويمكن في سبيل ذلك الاستفادة من منظومة القيم التي يساعد استخراجها من القرآن الكريم من بناء البعد المنهجي في التفكير، فيكون البحث في القيم بذلك طريقا يهدف لبناء البعد المنهجي وكذا التربوي وهكذا نستثمر البعد المنهجي في بناء المناهج التعليمية، مما ينتج لنا جيلا متشبعا ومتمكنا من الوعي المنهجي، وعموما فهذا الموضوع بحاجة إلى بحث دقيق وعميق وجهد جاهد ومتواصل للتمكن من بناء المنهجية المعرفية الإسلامية المنبنية بالأساس على التكامل المعرفي. *باحثة في التربية والدراسات الإسلامية [email protected]