إن مسألة تعثر تشكيل الحكومة المنبثقة عن انتخابات السابع من أكتوبر 2016، وما استغرقته المشاورات من مدة زمنية مطولة، تجاوزت خمسة أشهر، واعتبرت سابقة في تاريخ المغرب مقارنة بباقي مشاورات تكوين الحكومات السابقة، أثار جدلا دستوريا وقانونيا لدى أوساط المهتمين بالقانون الدستوري، وجعل التساؤل مشروعا عن فحوى الفصل 47 من الدستور، وعن الدلالات الدستورية التي ينطوي عليها هذا الفصل، ومن أبرز هذه التساؤلات: 1. هل رئيس الحكومة المعين من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، والمكلف بتشكيل الحكومة مقيد وملزم، من الناحية الدستورية، بآجال محددة لتقديم حصيلة مشاوراته إلى الملك، أم إن مدة المشاورات غير محدودة من الناحية الزمنية؟ 2. في حال تعذر على رئيس الحكومة المعين تشكيل الحكومة، ما هي الاختيارات والمخارج الدستورية المتاحة أمام الملك لتجاوز هذا التعثر؟ وما هي المسطرة الدستورية السليمة لإنهاء مهام رئيس الحكومة المعين، والذي تعذر عليه تشكيل الحكومة؟ إن محاولة الإحاطة والإلمام بهذه التساؤلات، تقتضي منا تحليل فحوى الفصل 47 من الدستور، على ضوء باقي المقتضيات الدستورية الأخرى، مع ضرورة استحضار الآراء الفقهية ووجهات النظر التحليلية لأساتذة القانون الدستوري، التي رافقت هذه المرحلة الدقيقة والتأسيسية لتنزيل مقتضيات ومضامين الوثيقة الدستورية لسنة 2011. وقبل معالجة هذا الموضوع، لا بد من الإشارة في البداية، إلى أن ما جاء به الفصل 47 من الدستور وخاصة الفقرة الأولى منه، يعتبر مكسبا دستوريا مهما، واستجابة تاريخية بارزة لمطالب الفاعلين السياسيين الذين نادوا منذ حكومة التناوب، بضرورة دسترة تعيين الوزير الأول من الحزب السياسي الذي تصدر الانتخابات التشريعية، وهذا ما أكدته جل مذكرات الأحزاب السياسية المقدمة للجنة الاستشارية المكلفة بصياغة دستور 2011، الأمر الذي تمت ترجمته من خلال الفقرة الأولى من الفصل 47 من الدستور. وفي هذا الإطار، وبالرغم من المقتضيات المتقدمة التي جاء بها هذا الفصل، فإن تنزيل هذه المقتضيات عرف نقاشا حادا، وجدلا واسعا بين أوساط الفرقاء السياسيين والمهتمين بقضايا القانون الدستوري، خصوصا مع تعثر تشكيل حكومة السيد بنكيران عقب الانتخابات التشريعية للسابع من أكتوبر 2016، وطول مدة المشاورات. فهل رئيس الحكومة المعين من الحزب السياسي المتصدر لانتخابات مجلس النواب وفق منطوق الفصل 47 من الدستور، مقيد من الناحية الدستورية بأجل محدد لتشكيل الحكومة؟ في هذا الصدد، تنص الفقرة الأولى من الفصل 47 من الدستور على أنه "يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها"، وتضيف الفقرة الثانية من نفس الفصل على أنه "ويعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها". إن من يتفحص مضمون هاتين الفقرتين سيخلص إلى ملاحظتين أساسيتين: 1. ليس هناك تحديد لصفة الشخصية المعينة من الحزب السياسي المتصدر لانتخابات أعضاء مجلس النواب، والمكلفة بتشكيل الحكومة. 2. ليس هناك تحديد لمدة زمنية معينة، بين لحظة تعيين الملك لرئيس الحكومة، وبين لحظة اقتراح هذا الأخير لأعضاء الحكومة. إذن، فهل عدم تحديد المشرع الدستوري لأجل معين، بين لحظة تعيين رئيس الحكومة من طرف الملك، وبين لحظة اقتراح باقي أعضاء الحكومة، يعني أن رئيس الحكومة المعين غير ملزم، من الناحية الدستورية، بأي آجال لتقديم حصيلة مشاوراته إلى الملك؟ وهل هذه المشاورات يمكنها أن تستغرق زمنا غير محدد المدة؟ وبالتالي فإن الملك لا يجوز له دستوريا، إنهاء مهام رئيس الحكومة المعين، الذي تعذر عليه تشكيل الحكومة داخل آجال معينة؟ إن استيعاب فحوى الفقرة الأولى من الفصل 47 من الدستور، يقتضي منا لزوما ربطها بمضمون الفقرة الثانية، حيث يتضح بجلاء ووضوح، أن الهدف والغاية والقصد الدستوري من التعيين الملكي لرئيس الحكومة، هو الوصول إلى نتيجة حتمية، متجلية أساسا في اقتراح باقي أعضاء الحكومة من أجل تعيينهم من طرف الملك وتشكيل الحكومة، أي أن تعيين الملك لرئيس الحكومة، دون تمكن هذا الأخير من الوصول إلى النتيجة المتوخاة من هذا التعيين، والتي هي تشكيل الحكومة، يؤدي حتما إلى إفراغ التعيين الملكي لرئيس الحكومة من قصده الدستوري. ونظرا لما تكتسيه رئاسة الحكومة من أهمية دستورية بارزة، حددها المشرع الدستوري في الباب الخامس من الوثيقة الدستورية، وما تحتله هذه المؤسسة الدستورية من مكانة مرموقة داخل هرمية المؤسسات الدستورية، وما لهذه المؤسسة من علاقات وطيدة وعملية مع باقي المؤسسات الدستورية، وخاصة مع مؤسسة البرلمان، فإن تعطيل وتعثر تشكيل هذه المؤسسة يؤدي لزوما، إلى تعثر عمل واشتغال باقي المؤسسات الدستورية. وبالتالي، فإن الهدف والقصد الدستوري الصحيح والسليم، من التعيين الملكي لرئيس الحكومة، هو تشكيل الحكومة في أقرب الآجال، بل الإسراع في تشكيل الحكومة حسب ما تم تأكيده في نص بلاغ الديوان الملكي المؤرخ في 15 مارس 2017، من خلال استعماله لمصطلحات من قبيل "الإسراع"، "لقد سبق لجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، أن بادر بالإسراع، بعد 48 ساعة من الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية لسابع أكتوبر 2016، بتعيين السيد عبد الاله بنكيران رئيسا للحكومة"، وكذا "التسريع" حيث "سبق لجلالته أن حث رئيس الحكومة المعين، عدة مرات، على تسريع تكوين الحكومة الجديدة". في حين يبقى القصد والهدف من عدم تحديد المشرع الدستوري، لآجال معينة بين لحظة تعيين رئيس الحكومة ولحظة تشكيل الحكومة، هو مراعاة الصعوبات الممكن مواجهتها من طرف رئيس الحكومة المعين، عند شروعه في مشاوراته مع باقي الأحزاب السياسية الأخرى من أجل تشكيل الحكومة، والناتجة أساسا عن تباين واختلاف مواقف باقي الأحزاب السياسية أثناء هذه المشاورات. ويتولد عما سلف، أن آجال تشكيل الحكومة، يظل خاضعا للسلطة التقديرية للملك، بما يقتضيه حسن سير المؤسسات الدستورية، وفق ما نصت عليه الفقرة الأولى من الفصل 42 من الدستور، وما أكده نص بلاغ الديوان الملكي بإنهاء مهام السيد بنكيران، الذي تعذر عليه تشكيل الحكومة، حيث جاء في نص هذا البلاغ "وبمقتضى الصلاحيات الدستورية لجلالة الملك، بصفته الساهر على احترام الدستور وعلى حسن سير المؤسسات (...) فقد قرر، أعزه الله، أن يعين كرئيس حكومة جديد، شخصية سياسية أخرى من حزب العدالة والتنمية". وفي السياق نفسه، يضيف نص البلاغ: "وقد فضل جلالة الملك أن يتخذ هذا القرار السامي، من ضمن كل الاختيارات المتاحة التي يمنحها له نص وروح الدستور". وحيث إن هذا المقطع الأخير من نص البلاغ، لم يحدد صراحة باقي الاختيارات المتاحة للملك، من أجل تجاوز حالة التعثر الممكن حدوثها خلال مرحلة تشكيل الحكومة، فقد اشتد النقاش حول باقي هذه الاختيارات، حيث برزت مجموعة من الاجتهادات والتأويلات في هذا الشأن، ومن أبرزها: 1. هل الملك ملزم، من الناحية الدستورية، من أن يظل اختياره في تعيين رئيس الحكومة، منحصرا في الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، كما ينص على ذلك المقطع الأول من الفقرة الأولى من الفصل 47 من الدستور؟ أم إن هذا الاختيار يمكن أن ينصرف إلى أحزاب أخرى، كما ذهبت إلى ذلك الأستاذة نادية البرنوصي، أستاذة القانون الدستوري، في أحد استجواباتها المنشورة بمجلة "Telquel" بتاريخ 20 نوفمبر 2016 تحت عنوان « Et si Benkirane ne parvient pas à former son gouvernement ? » ". 2. ما هي الدلالات الدستورية التي ينطوي عليها المقطع الثاني من الفقرة الأولى من الفصل 47 من الدستور: "وعلى أساس نتائجها"؟ ولماذا تمت إضافة هذا المقطع، في الوقت الذي تبقى فيه الفقرة الأولى مكتملة المعنى والدلالة، من دون إضافة هذا المقطع؟ وهل حرف "الواو" هنا هو حرف عطف، وبالتالي فإن هذا المقطع معطوف على المقطع الأول وتأكيد له، حيث التأكيد هنا، على ضرورة التقيد في تعيين رئيس الحكومة، من الحزب المتصدر لنتائج الانتخابات التشريعية؟ أم إن "النتائج" هنا تعتبر معيارا آخر لتعيين رئيس الحكومة وهذا التعيين يقوم على أساس النتائج وترتيبها؟ 3. إذا افترضنا جدلا أن سعد الدين العثماني هو أيضا فشل في تشكيل الحكومة، أو أن حزب العدالة والتنمية اختار الاصطفاف في صفوف المعارضة، فهل يبقى الاختيار الوحيد هنا هو حل مجلس النواب والدعوة لانتخابات جديدة، كما هو منصوص عليه في الفصل 51 من الدستور، ووفق الشروط المبينة في الفصول 96 و97 و98؟ أم هناك اختيارات أخرى؟ في هذا الإطار، أدلت الأستاذة الفاضلة أمينة المسعودي، أستاذة القانون الدستوري بجامعة محمد الخامس بالرباط، برأيها بخصوص الفقرة الأولى من الفصل 47 من الدستور، خلال ندوة نظمتها الجمعية المغربية للقانون الدستوري خلال شهر مارس 2017، حيث أكدت الاستاذة الجليلة أن "المقطع الثاني من الفقرة الأولى من الفصل 47 من الدستور هو مقطع معطوف على المقطع الأول وتأكيد له، وأن التأويل الدستوري السليم لمقتضيات هذه الفقرة هو اختيار وتعيين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب". وتعيين الملك للسيد سعد الدين العثماني رئيسا للحكومة، بعدما تعذر الأمر على السيد عبد الإله بنكيران، إنما هو تأكيد وتعزيز لما ذهبت إليه الفقيهة أمينة المسعودي؛ حيث بقي الملك محافظا ومحترما لمنطوق الفقرة الأولى من الفصل 47 من الدستور. وقبل ختم هذا المقال، نتساءل عن مصير رئيس الحكومة الذي تعذر عليه تشكيل الحكومة، وخصوصا عن المسطرة الدستورية السليمة لإنهاء مهامه؟ إن الاحاطة بهذا الأمر تقتضي منا أولا تحديد وتدقيق المصطلحات؛ بحيث إن مجموعة من المنابر الاعلامية، وكذا الباحثين والمهتمين بقضايا القانون الدستوري، قد تداولوا واستعملوا مصطلح "إعفاء رئيس الحكومة"، في حين إن هذا المصطلح ليس له أي سند دستوري في نص الوثيقة الدستورية، فالفقرات الثالثة والرابعة والخامسة من الفصل 47 من الدستور تنص كلها على إعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة، وليس على إعفاء رئيس الحكومة، وهو أمر تقيد به أيضا نص بلاغ الديوان الملكي الذي أنهى ووضع حدا لمشاورات بنكيران؛ حيث لم يرد بتاتا مصطلح "إعفاء بنكيران" في هذا البلاغ، وإنما عملية إنهاء تكليف السيد بنكيران جاءت بطريقة ضمنية؛ وذلك "بتعيين الملك لشخصية سياسية أخرى من حزب العدالة والتنمية رئيسا للحكومة"، كما جاء في نص هذا البلاغ. وفي هذا السياق، اعتبر الأستاذ الفاضل محمد مدني، أستاذ القانون الدستوري بجامعة محمد الخامس بالرباط، من خلال تصريح أدلى به لجريدة "لكم" الالكترونية منشور بموقعها الالكتروني بتاريخ 17 مارس 2017، أن "طريقة إخراج بنكيران لم تكن سليمة، وأن إعفاء رئيس الحكومة لا يتم إلا بناء على استقالته". لكن السؤال الذي يثار هنا هو: هل رئيس الحكومة المعين وقبل تشكيله للحكومة ونيلها التنصيب البرلماني يكتسب فعلا الصفة الدستورية الكاملة "رئيسا للحكومة"؟ أم إن هذه الصفة لا تكتمل إلا بعد تشكيل الحكومة وحصولها على التنصيب البرلماني، وفق المسطرة الدستورية المنصوص عليها في الفصل 88 من الدستور؟ ولنفترض أن رئيس الحكومة المعين الذي لم تشكل حكومته بعد، ولم تنل بعد ثقة مجلس النواب، هو رئيس حكومة مكتمل الصفة الدستورية. في هذه الحالة، أليس رئيس الحكومة هو أيضا عضو ومكون من مكونات الحكومة كما تنص على ذلك الفقرة الأولى من الفصل 87 من الدستور؟ وبالتالي، فإن مسطرة إعفاء أعضاء الحكومة تسري أيضا وتطال رئيس الحكومة؟ هذه الإشكالات الدستورية وغيرها نتركها لكل المهتمين بقضايا القانون الدستوري، من أجل إثراء صرح الفقه الدستوري المغربي في هذا الشأن، علما أن إنهاء مهام السيد بنكيران تم من الناحية القانونية بمقتضى المادة الثانية من الظهير الشريف رقم 1.17.04 بتعيين السيد سعد الدين العثماني رئيسا للحكومة، الصادر بتاريخ 17 مارس 2017، والتي تنص على أنه "ينشر ظهيرنا الشريف هذا بالجريدة الرسمية، وتنسخ، ابتداء من التاريخ المذكور، أحكام الظهير الشريف رقم 1.16.160 الصادر في 15 من محرم 1438 (17 أكتوبر 2016) بتعيين السيد عبد الاله ابن كيران رئيسا للحكومة". *باحث في القانون الدستوري [email protected]