ثانيا. سياق الصراع: انفجار التناقضات حول طبيعة الاستقلال: في نشوة النصر على الاستعمار، وأثناء الاحتفالات الشعبية العارمة بانتهاء عهد الحجر والحماية، كما أعلن هذا جلالة المغفور له محمد الخامس ساعة رجوعه منتصرا من المنفى إلى أرض الوطن يوم 16 نوفمبر 1956، انفجر صراع الأطماع الغاشمة والمصالح المشبوهة في المغرب من أجل الهيمنة. والواقع أن هذا الصراع الذي انفجر غداة الاستقلال هو وليد اختلاف الرؤى وتضارب الأطروحات حول طبيعة هذا الاستقلال نفسه بين الفاعلين الرئيسيين، بمن فيهم المؤسسة الملكية التي كان لها منظورها الخاص ومقاربة الحركة الوطنية له، ومفهوم حركة المقاومة وجيش التحرير. 1. منظور الملكية للاستقلال إذا كان محمد الخامس قد رجع وأسرته من المنفى سنة 1955، فإنه أمضى سنة كاملة من التفاوض حول طبيعة هذا الاستقلال؛ حيث يقول الحسن الثاني: "كان لزاما علينا التفاوض للحصول على الاستقلال"، أي كان لزاما علينا نحن "المؤسسة الملكية" التفاوض بنفسنا مع فرنسا للحصول على الاستقلال، فمفاوضات "إيكس ليبان" انتهت بتشكيل مجلس وصاية العرش الذي عارضة المخلصون للملكية وبقيت كثيرة هي علامات الاستفهام معلقة حول الغاية من هذا المجلس، فاضطر "الملك" محمد الخامس إلى التفاوض بنفسه في مفاوضات "سان كلو" سنة 1956 التي "انتهت بالاعتراف الكامل باستقلال المغرب يوم 02 مارس 1956، فذهل السياسيون لما سألوا جلالته: بما عدت يا صاحب الجلالة؟" وكان راجعا من المفاوضات التي لم يشارك معه فيها أي سياسي، فأجابهم: "عدت بكل شيء"... فاندهشوا ولم يستطيعوا تصديق آذانهم..."، وعليه فإن مفاوضات "سان كلو" هي التي أرجعت للمغرب استقلاله وليست مفاوضات "إيكس ليبان"، حيث جلس المناضل إلى جانب الخائن، فالتهامي الكلاوي صرح في أجوائها بأن: "لا محمد الخامس ولا أحدا أبنائه سيعود إلى العرش". لكن تنبؤات التهامي الكلاوي خابت أمام أمر واقع فرض نفسه؛ حيث كان محمد الخامس طيلة حكمه على رأس الصراع من أجل حصول المغرب على الاستقلال، فالملك حارب على كل الواجهات، بخطبه التحريضية للأمة ومطالبتها بالجهاد في خطاب طنجة، ورفض طرح "الإصلاح في ظل الحماية"، ومن حسنات كون الملكية "تسود وتحكم" أمن المغرب أولا وقبل كل شيء حصوله على الاستقلال، كما أعطى للمؤسسة الملكية قصب السبق في اعتبار نفسها من حققه، بنضالها وتضحياتها ورصها للصفوف. وخاطب محمد الخامس الأمة، في أول خطاب للعرش بعد العودة من المنفى، قائلا: "إن الملك الذي يقف اليوم فخورا بما قام به من واجب نحو وطنه وأمته ليشعر بعظيم الغبطة... في سبيل القضية المقدسة قضية الوطن حريته واستقلاله ووحدته، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات". واضاف الملك أن هذا الاستقلال هو "استقلال تفاوضي" بينه وبين فرنسا وإسبانيا، "... لقد قطعنا ونحن في طليعة شعبنا ما يزيد على ربع قرن في معاناة أطوار هذا النضال، فاقتضانا جهودا وتضحيات، وأقحمنا في مضايق ما كان الخروج منها بمستطاع لولا أنا أدرعنا بالجلد والصبر والإيمان، وبتفانينا في المصلحة العامة، ونسيان الذات، وهكذا انتهى بنا الصراع المرير بمجرد رجوعنا من منفانا السحيق إلى القضاء على عهد الحجر والحماية وإعلان عهد الحرية والاستقلال... تحت التاج الذي تلتف حوله البلاد كلها، وذلك ما نادينا به وضحينا من أجله في سبيل إنجازه، ولم نتوان في رحلتنا الموفقة إلى فرنسا في إعداد العدة للقيام برحلتنا الميمونة إلى الديار الإسبانية..."، و"سنسافر للتفاوض... في شأن الحرية والاستقلال...". وعليه، يرد الملك الاستقلال إلى مجهوداته الشخصية التفاوضية أولا، وثانيا إلى "كونه نعمة من الله" الذي ألهمه على يديه ليحققه لشعبه، حيث "شاءت القدرة الربانية أن يكون جزاء هذه الأمة على قدر صبرها وثباتها... استقلال البلاد ووحدة التراب". ويتساءل الحسن الثاني عن الكيفية التي يمكن بها استثمار الاستقلال "لأن المغرب... وصل إلى مفترق الطرق، ويتعين عليه أن يعرف كيف يستثمر استقلاله... ولقد اقتضى الأمر ما أحرزنا عليه (نحن الملكية) منذ سنتين من تجربة... ولقد اقتضى الأمر منا كثيرا من التضحيات". ولكن أين دور الحركة الوطنية في الاستقلال؟ وأين كذلك تضحيات حركة المقاومة وجيش التحرير؟ وهل غطت المؤسسة الملكية بمنظورها للاستقلال وخطابها المتوازن مع تقاليد الجهاد في الإسلام ومهام أمير المؤمنين على عموم المناضلين والمقاومين ونضالاتهم؟ 2. منظور الحركة الوطنية للاستقلال في الحقيقة، وبالرغم من وحدة الحركة الوطنية تاريخيا، إلا أن صراعات خفية طفت على السطح، بسبب اختلاف المقاربات حول مفهوم الاستقلال داخل أجنحتها، ولكنها ستتطور إلى مستوى أكثر حدة؛ حيث سيبرز الصراع عن السلطة أكثر دموية وأكثر درامية. وأمام هذا المستوى من الصراع حول الاستقلال، كان الملك محمد الخامس العائد من المنفى يجهل تفاصيله، وبالخصوص "عدة تفاصيل عن حزب الاستقلال والحركة الوطنية عامة وعمق اختلافاتهما"، التي انفجرت قبل وبعد الذهاب إلى "إيكس ليبان"؛ حيث اعترض ممثلو حزب الاستقلال على الجلوس إلى مائدة واحدة مع خصوم استقلال المغرب، وخصوم محمد الخامس، وممثلي ابن عرفة، وانتهى الأمر إلى أن يستمع الجانب الفرنسي إلى المغاربة كلا على حدة؛ حيث كان الحاضرون في مؤتمر إيكس ليبان يتوزعون كالتالي: المخزن: امبارك البكاي، الحاج محمد المقري وابنه التهامي ومحمد الناصري. "التقليديون": الباشا التهامي الكلاوي والمدني بن حيون وبعض القواد والباشوات. رجال الدين: عبد الحي الكتاني. العلماء الوطنيون: الجواد الصقلي وحماد العراقي. اليهود المغاربة: ابن زاكين وجاك داهان. المعمرون: أوكوتوري وكوش والمحامي لوكير. حزب الاستقلال: علال الفاسي، عبد الرحيم بوعبيد، بلا فريج، محمد الفاسي، والمهدي بن بركة. حزب الشورى والاستقلال: عبد القادر بن جلون، الشرقاوي محمد، أحمد بن سودة وعبد الهادي بوطالب. وفي مدريد سأل علال الفاسي عبد الرحيم بوعبيد: "هل ستؤدي الاجتماعات مع الفرنسيين إلى استقلال حقيقي أم إن الفرنسيين سيضحكون علينا كما فعلوا مع التونسيين بما يسمى الاستقلال الداخلي؟". فكان جواب عبد الرحيم بوعبيد: "الهدف الأسمى هو الاستقلال الحقيقي، وأن ميزان القوى يميل شيئا فشيئا لصالحنا". إذا كان الأمر هكذا، يقول الزعيم "علال"، "لا مانع من الاستمرار في إجراء الاتصالات مع الحكومة الفرنسية". ونزولا عند رغبة حزب الاستقلال وحزب الشورى بعدم الجلوس مع من لعب دورا مخزيا في الأزمة المغربية، وأمام خطة كانت محبوكة في نظرنا من قبل، انفردت فرنسا بكل فئة للتفاوض معها على حدة، وهي سياسة قديمة جربتها في المغرب تحت شعار "فرق تسد". ووفق هذا "السيناريو" بدأت اللجنة في الاستماع يوم الإثنين 22 غشت 1955 إلى المحادثات التي دارت معها ومع الحاج محمد المقري، الصدر الأعظم، لاعتبارات بروتوكولية، أما اليوم الموالي الثلاثاء 23 غشت فكان يوم الباشا التهامي الكلاوي (صهر الحاج محمد المقري)، واستمعت اللجنة بعد ذلك، يوم الأربعاء 24 غشت، إلى ممثلي حزب الشورى والاستقلال، منهم عبد القادر بن جلون (الأمين العام بالنيابة) والأستاذ الشرقاوي، حيث تلخص رأي الحزب في كونه يناضل مع الذين يقاومون في سبيل السيادة والاستقلال، والسلطان هو الحارس الأمين للدولة المغربية وهو رمزها، مؤكدا على ضرورة إبعاد بن عرفة وتكوين "مجلس العرش" وعودة محمد الخامس وتكوين حكومة مؤقتة على أن لا تشارك فيها الأحزاب. أما حزب الاستقلال فكان آخر وفد استقبلته اللجنة الفرنسية يوم الخميس 25 غشت، وسجل المتحدث باسمه، الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد، أن أطروحة حزب الاستقلال تعتبر أن ظروف الحماية قد تغيرت، وقد بدأ التفكير في استقلال المغرب، "وعليه نطالب بإلغاء عقد الحماية، ووضع نظام للعلاقات الاقتصادية بين البلدين على أساس الاستقلال". بمعنى أن الأطروحة الاستقلالية تنبني على شقين: استقلال سياسي واستقلال اقتصادي، وهو ما يغيب في المنظور الملكي للاستقلال؛ حيث تم التركيز فقط على الاستقلال السياسي، كما أن الأطروحة الاستقلالية تنبني على رفض "مجلس العرش"؛ إذ عبر علال الفاسي أنه يعارض شكليا هذه الخطوات التي تطيل في الجوهر أمد الحماية، وهو الموقف الذي يتعارض مع طرح حزب الشورى والاستقلال الداعي إلى تكوين ذلك المجلس، أما المؤسسة الملكية فقد وافقت على تأسيسه شريطة المشاركة في تحديد سلطاته. وبالفعل، تم تكوين هذا المجلس بتاريخ 15 أكتوبر 1955 من السادة: امبارك البكاي ومحمد المقري ومحمد الصبيحي والطاهر عسو. وكانت أولى مهامه الحفاظ على العرش إلى حين عودة الملك الشرعي، لكن في أول أيام عودة العاهل إلى أرض الوطن، جرت حوادث خطيرة، كإحراق الخليفة البغدادي في المشور قرب القصر الملكي، وتعرفت عليه الجماهير التي كانت في استقبال محمد الخامس، وقد جاء هذا العميل ليعبر عن إخلاصه للعرش. كما وقعت مناوشات بين حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال؛ إذ منع عبد القادر بن جلون وعبد الهادي بوطالب من الدخول إلى المشور من طرف القادة الاستقلاليين. وأيضا جرت حوادث بسوق الأربعاء بين الاستقلاليين والشوريين، ذهب ضحيتها كثير من الأبرياء، وظهرت في مختلف نواحي المملكة صور لعلال الفاسي وهو يرتدي لباس قائد عسكري. وهكذا بدأت تظهر المؤشرات الأولى لصراع الإخوة الأعداء داخل أجنحة الحركة الوطنية حول قضية الاستقلال، والتزلف إلى الملك من أجل قطف ثماره، والتزاحم على باب المشور، لكن بروز النزعات الهيمنية لحزب الاستقلال في أعماله وخطاباته الجماهيرية، وقد تحول مناضلوه إلى شرطة خاصة لحماية الملك العائد من المنفى من المطار إلى القصر الملكي؛ مؤشرات تدل كذلك على انحراف حزب الاستقلال عن الخط التحريري الذي تؤاخذه عليه حركة المقاومة وجيش التحرير التي كان لها مفهومها الخاص للاستقلال. (يتبع: 3. مفهوم حركة المقاومة وجيش التحرير للاستقلال)