علاقتنا بالازدحام ليست على ما يرام هذه الأيام. فبعد أن ألِفنا الازدحام في وسائل النقل من قطارات وطوبيسات وفي الأسواق الشعبية، وفي الملاعب والمدرجات، وفي معابر سبتة ومليلية؛ لم نتوقع أن يؤدي التدافع يوم الأحد الأخير صباحا، على حين غرة وفي غفلة منا، إلى وفاة 15 امرأة من الطامحات في "المعاونة" كما نسميها في المغرب العميق، في مشاهد وصور ومقاطع فيديو تُدمع القلب قبل العين، لتنضاف الحادثة إلى سجل النقاط السوداء التي طبعت تاريخ المغرب المعاصر. "المعاونة" أو المساعدات الإنسانية كما تحب السلطات تسميتها، لإضفاء طابع التضامن عليها، هي السبب المباشر في فاجعة ضواحي مدينة الصويرة، التي أصابت الرأي العام بالذهول والاستغراب لعدد الضحايا الوفير، متسائلين عن دور وزارة الداخلية والسلطات المحلية التي لم تتدخل لتنظيم تسيير استفادة هذا الكم الغفير من النساء من "المعاونة"، التي تعد بالنسبة إلي "تكيت" عار في جبين الدولة المغربية. فبغض النظر عن مصدر هذه المبادرة "الإنسانية"، هل هي الدولة أم أشخاص بعينهم من الميسورين، إلا أنها تظل مجرد مواد غذائية من دقيق وسكر وزيد، تُستهلك في أسبوع أو أقل بأيام، وسيعود الفقير إلى حالته المعتادة، لأن هذه المعاونة، بالتجربة، لا تسمن ولا تغني من جوع، في ظل تنامي سياسة تسمين الغني وتفقير الفقير، في زمن الأقمار الاصطناعية والقطارات فائقة السرعة. إلى الأمس القريب، لم نكن نثق بمقولة "فلان مات جوعا"، ولكن مع كارثة "سيدي بولعلام" التي يندى لها الجبين ويعتصر لها القلب، باتت الإشاعة حقيقة، وبات الخبر يقينا، وأصبحت الناس تموت جوعا وفي ظروف شبيهة بما وقع لشهداء "كوميرا" إبان انتفاضة 20 يونيو سنة 1981، والغريب أن الضحايا ال15 من النساء فقط، في غياب تام ل"الرجال". ولأن صاحب هذه السطور من المغرب العميق بجبال الأطلس الكبير الشرقي، ومن وسط 90 في المائة منه ممن يقض مضجعهم الفقر المدقع، فقد عشت هذه "المناسبة" أكثر من مرة، خصوصا في رمضان مع مؤسسة محمد الخامس للتضامن، عايشت زمن تجمع حشد من النساء قبالة باب "الخيرية" بالجماعة القروية تونفيت بإقليم ميدلت لساعات وساعات، في انتظار دعوة كل امرأة باسمها لتحظى ب"قفتها" سيئة الذكر، مع انتشار الزبونية والمحسوبية في أوساط المستفيدين. ولو أني من وسط بسيط وبدوي وقروي بتضاريسه القاسية ومسالكه الوعرة، وفي حاجة إلى "المعاونة" حينها أكثر من أي وقت مضى، لِتقينا، لأيام معدودات، شظف الحياة؛ إلا أنني كنت ولا أزال رافضا، بالمطلق، لمبادرة تحت مسمى "معاونة"، نظرا إلى أنني أعتبرها إساءة للفقير بقدر ما هي مساعدة، وإهانة للمحتاج بقدر ما هي تضامن، لأنه لن نحارب الفقر والعوز والحاجة والإملاق بتلك الطريقة الحاطة من قيمة الإنسان، إذ لو قُسّمت ثروة البلاد بالتساوي على العباد، لما سمعنا أو قرأنا عن الكثير من الفواجع التي آلمتنا. ولأن الثقافة والوعي غائبان عن أذهان هؤلاء المسنين رجالا ونساء، ممن كانوا يوما مقاومين ومجاهدين في سبيل استعادة المغرب لاستقلاله، باستثناء خيرة الشباب من المتعلمين، لهذا استشرت ظاهرة المعاونة في أوساط القرى والمداشر والبوادي واستفحلت، وتوغلت في أذهان قاطنيها حتى باتوا يلهثون وراءها بكل أسف وهم معذورون. وبصفة عامة، ماذا ستخسر الدولة، حفاظا على ماء وجه المواطنين الضعفاء، لو صرفت تلك "المعاونات" في ما يفيد البشر والشجر والحجر، ماذا ستفقد إن صرفت عائدات تلك المواد الغذائية في البنيات التحتية من مدارس ومستشفيات ومعامل ومصانع حتى تعم الفائدة، وحتى يستفيد الجميع دون استثناء، الكبير والصغير، الرجل والمرأة. وهذا يحيلنا مباشرة إلى المثل الصيني الذي يقول: "لا أريد سمكة، بل علمني كيف أصطادها"، أي لا أريد شفقتكِ أيتها الدولة، بل وفري لي فرص الشغل فقط. وبهذه المناسبة الأليمة، لا يسعنا إلا أن نتقدم بأحر التعازي وأصدق المواساة إلى عائلات "شهيدات الخبز"، ونطلب من الله عز وجل أن يتغمد الفقيدات برحمته الواسعة، وأن يلهم ذويهن الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.