رحل عنا قبل أربع عشرة سنة الأديب محمد شكري، لكنه لازال حاضرا، وسيظل حاضرا إلى الأبد. استطاع شكري أن يقهر القهر ذاته، وعلمنا أن شروط حياتنا مهما كانت قاسية ليست قدرا لا يمكن تجاوزه، وأن الإنسان يمكن أن يتفوق على ذاته إذا أجبرها على الكشف عن إمكانياتها ومكامن قوتها. استطاع شكري أن يتعلم وهو ابن العشرين..بعد أن تشرب دروسا قاسية في الحياة من قاع المدينة..لكنه لم يتعلم فحسب..وإنما اتخذ من تعلمه سلاحا للكشف عن ذلك الواقع المنسي في المجتمع؛ ذلك الواقع البئيس القاسي الذي يعرفه الجميع، ويتنكر له الجميع أيضا؛ ذلك الواقع "المسكوت عنه"، المدفون تحت طبقات ضبابية من "الأخلاقية الزائفة". استطاع شكري أن ينتشل حياة المهمشين من القاع المنسي، من وراء المظاهر الزائفة، إلى سطح النقاش العام، من ظلمة التهميش إلى أنوار "شمس الحقيقة". أبدع شكري عمله الأساسي "الخبز الحافي"، وهو عمل فني لا يخلو من إبداع أدبي، لكنه أيضا وثيقة هامة اجتماعيا وتاريخيا..إنه صرخة في وجه النفاق الاجتماعي، صرخة في وجه مجتمع يتنكر لأبنائه المهمشين، ويتملص منهم، ويتخلص منهم بعد أن يريح "ضميره" الآثم عندما يخفي فضيحته بنبذهم وإنكار بنوتهم تحت نعوت قدحية مثل "أولاد السوق" أو "المنحرفون" أو "المجرمون" أو "الحشايشية" أو "السكارية"...إلخ.. كتب شكري نصه "الخبز الحافي" بلغة بسيطة وسهلة، نعتها أحد النقاد ب"اللغة العارية"..أي كتب بلغة خالية من البلاغيات والمحسنات اللفظية..كتب بلغة عارية تماثل تماماً عراء الواقع الذي يكتب عنه..لغة مباشرة مثل حياة المشردين والصعاليك الذين لا أقنعة لديهم يلبسونها..يسمون كل شيء باسمه..لغة واحدة تتناغم والحياة الواحدة التي يعيشها "الليليون" في ليلهم لا ازدواجية فيها..إنهم لا يبرزون للمجتمع وجها في العلن الظاهر ويعيشون بوجه آخر مغاير في السر والخفاء. "الخبز الحافي" عمل أدبي حاف من كل المحسنات، لكنه حاد جارح كالسيف، جعل الكثيرين يتساءلون عن أسباب الفقر والتشرد والجريمة وتعاطي المخدرات والاغتصاب والدعارة والعنف، ويفكرون في أن هؤلاء المهمشين بكل أنواعهم هم في النهاية أبناؤنا، لم يسقطوا أبداً علينا من السماء في غفلة منا..إنهم ثمرة سياسة عامة هدفها غربلة المجتمع بالعنف المادي والمعنوي، سياسة طبقية عنيفة تدفع بالكثيرين إلى السقوط نحو القرار السحيق، نحو الهاوية...حيث العنف والجريمة، حيث يتربص بهم الموت البطيء والإحباط الشامل دون أحلام ولا آمال ولا طموحات. ترجمة "الخبز الحافي" إلى أكثر من ست وعشرين لغة في العالم حملت معها رسالتها إلى كل هذه اللغات حول العالم، لكن الملفت أن هذه اللغة البسيطة التي كتبت بها لم تكن سوى اختيار أدبي..ولم تكن أبداً سقفا لغويا لشكري..يبدو ذلك جليا حين نقرأ "زمن الأخطاء" أو "غواية الشحرور الأبيض"..حيث نجد لغة أخرى تختلف كثيرا عن اللغة العارية المباشرة الحادة التي سطر بها "الخبز الحافي"...