تأملات في واقع منفلت أمريكا وهمٌ يصعب التخلص منه.. لا هي حقيقة تصدقها، ولا هي كذبة تضحدها! بين صحراء نيفادا وأريزونا وكاليفورنيا مدن أشباح. قرى مهجورة على امتداد الصحراء. وجنوبا في اتجاه نِيدْلْس تقرأ لوحات تحذيرية من تحطي الشباك، أو عبارات تتحسر على ”مقتل الأرض“ لا شك في أن هنديا من قبائل ”موهابي“ أو ”الأباش“ قد كتبها في حالة سكر طافح. وفي مفترق الطرق ترى قنينات الماء الصالح للشرب وبجانبها عبارة ”اشرب واترك لمن سيأتي من بعدك“. الصحراء قاتلة. المتسللون من الجنوب قادمون. الهاربون من الجوع يعبرون الصحاري بحثا عن ظل في فيكاس أو سان دييغو بحثا عن الأوهام. لاس فيغاس. مدينة الخطيئة. مدينة تضخ الأوكسجين في جنبات الشوارع كي يظل الناس مستيقظين. وفي فيغاس ستريب أشباه فنانين يلتقط العابرون الصور. مارلين مونرو، إلفيس بريسلس، برج إيفل. كل شيء يعكس صورة ”حقيقة ما“، ورجال من الهسبان يوزعون بطاقات تجارة الأجساد النسوية في شارع المدينة. كلما تحدثت عن أمريكا، وأقصد الولاياتالمتحدةالأمريكية، واعتقدت أنك خبِرت فهمها، اكتشفت أكثر أن واقع الوهم كان أكثر هيمنة عليك. التعدد والاختلاف رأسمال رمزي تستثمره الآلة الأمريكية لإعادة إنتاج رأسمال اقتصادي، تحول إلى سلعة تجارية تدر أرباحا خيالية. في أمريكا تكتشف المدن وهي تموت وتحيا. كائنات تحيا بعمر الكائن البشري. فتمر من المدن الصناعية المهجورة، في ماستشويسيت ومين ونيفادا وأريزونا وكاليفورنيا ونيويورك، فلا ترى غير الأشباح. مدينة بكاملها مهجورة على جنبات الطريق السيار في نيفادا وكاليفورنيا. المدن الأشباح. حياة بكاملها توقفت. تقترب من الأزقة فترى السيارات القديمة، ولعب الأطفال، والكتب والصور، مائدة طعام تشهد على آخر وجبة تناولها من سكنوا البيت المهجور أو مروا بالمقهى أو الحان. فواتير ما زالت في الدولاب. آلة الغسيل مركونة في مكانها، وعلب السكر والقهوة والطعام. توقفت الصناعة فتوقفت الحياة. أخرجت ثروات باطن الأرض، فتحولت الصحراء إلى جحيم لا يطاق. انتهت حمى اكتشاف الذهب، وهجر الناس المكان بحثا عن سراب يقيهم القحط. حياة السراب والأوهام. يتوقف السائح فيلتقط صور الزمن القديم. إنها فكرة اختراع الزمن الأمريكي. عشرون عاما مرت على توقف القطار في آخر محطة الطريق رقم 66 الشهيرة في أريزونا. صار القطار مشهدا لالتقاط الصور. خمسون عاما مرت على إغلاق ثانوية المدينة، ورحيل آخر أسرة كانت تدير ملهى ليليا هجره رواده بعد إغلاق مناجم الذهب المجاورة. هجرت المعامل أمريكا في اتجاه العالم الصيني وشرق آسيا ومدن الساحل الغربي الإفريقي في محاولة لتسويق وهم مساهمة العالم في الصناعة العالمية. منطق السلع الصناعية والصناعات الثقيلة انتهى. تغادر مدينة أمستردام ضواحي ألباني في نيويورك فيغمرك إحساس تراجيدي بمصير النهايات. وحين تدخل نيويورك تفاجأ بالحياة الفائقة السرعة. إشارات وإعلانات ومتاجر، وصافرات سيارات الإطفاء وسيارات الإسعاف. ورجال الأمن والكاميرات، والأنفاق مسلحة بكاميرات رصد لوحات السيارات حتى لا يفلت أحد من أداء التسعيرة. إنها المدن الذكية. ثقافة ”الذكاء“، من الاقتصاد الذكي إلى عبارات الأمريكيين: “لا تجهد نفسك بالعمل الشاق، بل اشتغل بذكاء“! تحيا الشعوب على الحلم والأوهام. لكن نجاح السلط الحاكمة رهين بصناعة وهم يصعب عليك أن تميز فيه بين الواقع والمستحيل والخيال، بل إن الواقع هو فكرت (ك) عنه. هنا، يكمن بالتحديد الفارق ”الهش“ لكن الحاسم في المسافة، بين الغرب والعالم العربي. هناك إيمان راسخ أن المستقبل هو الأهم وأن الحاضر ”هدية“ Present ينبغي الاستفادة منه والتمتع به، بينما الشعوب العربية تحيا الماضي في الحاضر، والأنظمة منشغلة في اجترار ”واقع“ تفضحه المسافة المهولة بينه وبين الوهم.