المجتمع المدني و''الربيع العربي'، أية علاقة؟ إشكال من بين إشكالات أخرى حظيت باهتمام واسع من قبل الباحثين والمثقفين وخصوصا بعد الاضطرابات bouleversement الأخيرة التي شهدتها المنطقة العربية منذ نهاية سنة 2010، ولعل اهتمامهم بهذا الإشكال راجع إلى اعتقادهم بأهمية المجتمع المدني في إحداث تغيير في بعض الدول العربية. ويعد 'فرانسيسكو كافاتورتا' أحد هؤلاء الذين تحدثوا عن يقظة المجتمع المدني خلال انتفاضات الربيع العربي[1]. قبل مناقشة أفكار المقالة ونقدها، نتساءل: ماطبيعة المجتمع المدني الذي يتحدث عنه الكاتب؟ وهل حقا استطاع المجتمع المدني العربي أن يُسقِط بالأنظمة الاستبدادية ويُحدِث التغيير؟ إن تنظيمات المجتمع المدني بما فيها الإسلاميين في نظر الكاتب غير فعالة في تحدي الإستبدادية، بل هي في أسوء الأحوال آلية تنتج نماذج إستبدادية تعمل في نهاية الأمر على ترسيخ الحكم الإستبدادي، لكن هذا لا يعني بأن أعضاء المجتمع المدني لم يحتجوا، بل بالعكس، فهم إحتجوا لكن لم يغيروا من الوضع الإستبدادي القائم، كما أن أعضاء المجتمع المدني الذين شاركوا كانوا قد انخرطوا بصفة شخصية وليس باسم الجمعية أو التنظيم، ويبرر صاحب المقال ضعف المجتمع المدني إلى القمع والترهيب واستراتيجة فرق تسد التي تعرض له من قبل الأنظمة الحاكمة. لكن هذا السبب لا يفسر وحده غياب المجتمع المدني كتنظيمات لها دور في التغيير، بحيث يمكن أن نتحدث عن تواطؤ هؤلاء مع السلطة وتبعيتهم لها، وبالتالي مسؤوليتهم عن عرقلة التغيير أو على الأقل تعطيله وتأجيله إلى أجل غير معروف، في ضوء تبعيتهم القاتلة لأجندات الدولة وحساباتها الخاصة، عن طريق شرعنة أوضاع سياسية مختلة وغير سليمة على الإطلاق[2]. إن المجتمع المدني بهذا المعنى ينبغي أن نعيد تعريفه من جديد في نظر صاحب المقالة، فهو لا يقتصر فقط على التنظيمات الهيكلية الرسمية التقليدية، إنما يجب أن يشمل مايسمى ب''المواطنة الفاعلة citoyenneté active'' أي أنه بامكان المواطنين أن يعيشوا واقع المعارضة عن طريق تعبئة أنفسهم واستخدام شبكاتهم الإجتماعية، لهذا السبب إستطاع الشباب العربي أن ينتفض باسمه ضد الأنظمة الإستبدادية بعيدا كل البعد عن تعبئة المجتمع المدني. ومن هنا يمكن القول بأن الشباب إنتفض ليس فقط على الأنظمة التللطية القائمة، إنما انتفض ضد زعماء تنظيمات المجتمع المدني الذين تعاونوا مع النظام وفشلوا في إحداث التغيير. فإذا كان الحراك التقليدي فيما قبل أخفق في إنشاء تحالفات بينهم بسبب الصراعات الأيديولوجية، فإن شباب الربيع العربي إستطاع أن يخلق تحالفات بسبب غياب الإنتماءات أو تجاوزها على الإقل، بالإضافة إلى أن عامل غياب زعماء في الواجهة واستغلال وسائل التقنيات الجديدة أسهما بشكل كبير في التعبئة. إن المواطنة الفاعلة بهذا المعنى، تؤسس لما يسمى عند هابيرماس بالبينذاتية، وهي ذلك الوعي المشترك بين الأفراد يتيح لهم التفكير بطريقة نقدية وحرة في الفضاء العام، هذا الفضاء الذي يجتمع فيه المواطنون لتبادل الآراء ومناقشة القضايا السياسية، ''إنه فضاء لم يكن جزءا من المجتمع المدني فقط، بل هو وسيط بين هذا المجتمع المدني والدولة''[3]. فالمواطنة الفاعلة إذن تنبني على الإسهامات الفردية ولا تخضع لأي سلطة هرمية رسمية، وهذا مايوضحه هابيرماس في تعريفه للفضاء العام، بحيث أن ما يميزه هو المساواة التامة وعدم التمييز (رفض محاولة روح الأبوية أو الزعامة حسب صاحب المقالة)، كما أن المجال العام هو متاح للجميع وليس حكرا على أحد. وما يلاحظ في إطار تناولنا لنظرية هابرماس في الفضاء العام هو تركيزه على الفرد وفاعليته، فالتفكير في الفضاء العام هو تفكير في: اندماج الفرد في المجتمع، ومشاركة الفرد المواطن في الحياة العامة السياسية، ومساهمة الفرد في تعزيز الديموقراطية عبر السلطة السياسية[4]. إن هذه المواطنة الفاعلة تهدف إلى التخلص من قبضة القوى السياسية والإجتماعية وذلك من أجل تحرير المجال العام، وقد سماها علي عبد الرزاق جبلي في السياق المصري بالمواطنة النشطة[5]، ففي نظره، هنالك شواهد تدلل على ظهور المواطنة النشطة باعتبارها أكثر انسجاما مع خصائص المجال العام الكوني الذي بدأ يتشكل في مصر بعد ثورة 25 يناير، فقد بزغت هذه المواطنة حينما انخرط الشباب المصري في الأنشطة الموجهة نحو التغيير سواء في منظمات المجتمع المدني أو بطريقة مستقلة، كما استطاع أن يكوِّن رأيا مستقلا وحرا[6]. إن بزوغ المواطنة الفاعلة في سياق التحولات الأخيرة التي شهدتها الدول العربية وقدرتها على التغيير مظهر من مظاهر نمو درجة الوعي عند الشباب العربي التواق إلى التغيير، والذي استطاع أن يخلق هوية موحدة لمواجهة الإستبداد بدل الخضوع لتوجيهات تنظيمات المجتمع المدني الذي فشل في إحداث التغيير. لكن السؤال المطروح هو كالآتي: بما أن صاحب المقالة يفسر الربيع العربي بمقولة ''المواطنة الفاعلة'' والتي استقاها ضمنيا من النسق الفكري لهابرماس، فهل يمكن أن نتحدث عن مواطن فاعل في ظل هيمنة التفكير التقليدي عند أفراد المجتمع؟ وهل حقا نتوفر في سياقنا العربي على فرد مسؤول وحر ومثقف قادر على إحداث تغيير شامل وأوسع أو بالأحرى هل نتوفر على مجتمع مدني حقيقي مستقل؟ إذا كان هابرماس يتحدث عن سياق غربي عرف تحولات عميقة في الفكر والإقتصاد والسياسة، فإن فرانسيسكو صاحب المقالة يحلل بمفاهيم حداثية منشؤها الغرب مجتمعات لازالت ترسبات الماضي تحدد وتتحكم في حاضره. صحيح أن بوادر الفردانية والمواطنة الفاعلة بدأتا تظهران في سياقنا العربي، إلا أنه يصعب أن نفسر بهما ما يسمى بالربيع العربي مادامت هذه المفاهيم جديدة على الثقافة العربية الإسلامية ولم يعرفها إلا حديثا، فالمواطنة الفاعلة ظهرت في سياق التنوير وانفصال الدولة عن الكنيسة، بينما لم يستجد هذا المفهوم في العالم العربي إلا بعد الإستعمار. كما أن فرانسوا كتب هذه المقالة في ظرفية زمنية لازال فيه الشباب متحمس إلى التغيير (سنة 2012) أي بعد الربيع العربي بسنة واحدة، بينما لا نعرف هل لازال ينظر إلى الربيع العربي بنفس النظرة وبنفس الإعجاب وخصوصا بعد فشلها في بعض البلدان والدليل على ذلك هو ما نشهده اليوم في بعض الدول التي اكتوت بنار الثورة ولازالت ترزح تحت وطأتها. يمكن أن نقول في الأخير بأن صاحب المقالة وفق إلى حد ما في إثارة مفهوم المواطنة الفاعلة كشكل من أشكال المجتمع المدني في الوطن العربي ومساهمته في الربيع العربي، إلا أنه حسب ما يبدو لي سقط في التعميم[7]، فالمواطنة الفاعلة التي يتحدث عنها لا تنطبق على بعض البلدان العربية كالمغرب على سبيل المثال. بحيث أن هذه المواطنة التي يتحدث عنها الكاتب تتطلب من جهة أولى التعبير عن الرأي الحر والنقدي غير التابع لأي جهة، ومن جهة ثانية عدم الإستجابة لأي شكل من أشكال التنظيم الهرمي كيف ما كان نوعه، سواء كان معارضا أو رسميا، بهذا يمكن أن تتحقق ما يسمى بالمواطنة الفاعلة. فهل تحققت هذه المواطنة أثناء انتفاضة شباب حركة 20 فبراير بالمغرب؟ [1] Cavatorta, F. Arab spring: the awakening of civil society: a general overview. na. 2012. [2] فريد لمريني، حركة شباب 20 فبراير ومشهد التغيير في المغرب: محاولة سوسيو-سياسية، مجلة وجهة نظر، العدد 49 (2011): ص 9. [3] أبو النور حمدي أبو النور حسن، يورجين هابرماس الأخلاق والتواصل (بيروت، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2012)، ص 194 [4] رشيد العلوي، ''الفضاء العمومي من هابيرماس إلى نانسي فريزر''(الرباط، مؤمنون بلا حدود، (بدون تاريخ)، ص 6. [5] علي عبد الرزاق جبلي، الإندماج الإجتماعي والمواطنة النشطة مصر بعد ثورة 25يناير نموذجا، (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2013). [6] المرجع نفسه، ص 32- 33. [7] يصعب تفسير التغيير الذي وقع في بعض البلدان بفرضية المجتمع المدني أو المواطنة الفاعلة، مثال ليبيا واليمن، والمغرب بدرجة أقل.