وأخيرا جاءت "حكومة الوفاق الوطني" واستلمت بروتوكوليا الوزارات والمقرات الحكومية في قطاع غزة، وبعد أيام ثلاثة عاد رئيسها والوزراء إلى رام الله وعادت الأمور في القطاع إلى ما كانت عليه في انتظار لقاءات القاهرة التي قد تفتح الملفات مجددا فيغرق المتحاورون في مسلسل من الحوارات التي قد تطول فيما الشعب، وخصوصا في قطاع غزة لم يعد يطيق صبرا . هذه الزيارة للحكومة جددت التفاؤل عند الجماهير الشعبية البسيطة، كما حدّت من حالة الاحتقان السياسي؛ فلأول مرة منذ أكثر من عشر سنوات غاب التحريض ولغة التخوين والتكفير من وسائل الإعلام الحزبية ومن الخطاب السياسي لقادة الأحزاب، وخصوصا حركتا حماس وفتح. هذا الأمر وإن كان وضع الفلسطينيين على طريق المصالحة إلا أنه من السابق لأوانه القول إن المصالحة تحققت بالفعل والانقسام قد انتهى، فالمعادلة أكثر تعقيدا . ما نريد التركيز عليه هنا هو كيف يمكن للفلسطينيين التصرف تجاه هذه المصالحة المفروضة أو المصالحة بالإكراه، وضرورة الحذر من المؤامرات التي تُحاك في الخفاء لإفشال المصالحة التي يريدها الفلسطينيون أو توظيفها لخدمة متطلبات "الصفقة الكبرى"، وعدم الخلط بين الأمور، أو التعجيل بفتح ملفات قبل أوانها كما جرى مع ملف الأمن وسلاح المقاومة . الآن، وبعد تسلم الحكومة لمقراتها، فإن الشعب الفلسطيني في غزة لم يعد معنيا بالتمييز بين "استلام" الحكومة لمقراتها، وهو ما تم يوم الثلاثاء، و"تمكينها" من عملها، وهو ما يُطالب به الرئيس وتنص عليه مبادرته. كما لم يعد أهلنا في غزة يرون الاحتلال الإسرائيلي ومسؤوليته عن الحصار بل وعن الانقسام، ولا حركة حماس وبقية الأحزاب الخ. الشعب لم يعد يرى إلا الحكومة، وبالتالي ينتظر منها حل كل مشاكل حياته اليومية . ليس دفاعا عن حكومة لا تملك من أمرها إلا القليل، ولكن هناك ما تستطيع فعله، وهناك ما هو أكبر من قدرتها. مثلا لا تستطيع الحكومة ولا الرئيس إصدار قرار برفع الحصار عن غزة وفتح كل المعابر، فالأمر هنا يتعلق بإسرائيل ومصر. وعلى مستوى حل مشكلة الموظفين فحتى إن حدث تفاهم حول هذا الملف وقررت الحكومة إعادة الرواتب المقطوعة والخصومات ودفع رواتب موظفي حركة حماس فالأمر يحتاج إلى موافقة الجهات المانحة لتدفع التمويل اللازم. والمسألة الأكثر تعقيدا هي سلاح المقاومة والعقيدة العسكرية المشتركة؛ فحتى لو توافق الفلسطينيون حول هذا الملف وأن السلاح سلاح مقاومة، فهل ستسمح إسرائيل بذلك وتسكت عنه؟ وكيف ستتصرف الحكومة وتدير الأمور في شطري سلطة في أحدهما يرتع جيش الاحتلال ويوجد تنسيق أمني، وفي الشطر الجنوبي لا يوجد جيش احتلال بل جيوش لحركات مقاومة متعددة ومعسكرات تدريب وإنفاق وصواريخ الخ؟ حتى لو تم الاتفاق مع حركة حماس على سلاحها فهل ستوافق حركة الجهاد وبقية الفصائل الأخرى؟ . كل ذلك يتطلب من الشعب الصبر ومنح الحكومة فرصة ووقتا كافيا حتى تجد حلولا لكل الملفات التي تراكمت في العقد الماضي، وخصوصا أن الحكومة ومن خلال مسماها هي حكومة "توافق وطني"، بمعنى أنها حتى وإن كانت تستطيع التصرف وتُبدع في بعض المسائل الثانوية، إلا أنها لا تستطيع الإنجاز في القضايا الكبرى إلا بما يتم التوافق عليه بين حركتي فتح وحماس، وهي القضايا المُدرجة في اتفاق المصالحة في القاهرة 2011؛ وهو الاتفاق الذي لم يتم وضعه موضع التنفيذ حتى الآن. بعيدا عن حسابات ومفهوم الأطراف الخارجية للمصالحة، فإن هناك تداخلا ما بين المصالحة الفلسطينية والتسوية السياسية (الإعداد للصفقة الكبرى)، وتداخلا بين المصالحة حسب اتفاق القاهرة لعام 2011 وما تسمى مبادرة الرئيس التي جاءت عقب تشكل حماس للجنة إدارة غزة . ما حرك ملف المصلحة، إضافة إلى متطلبات "الصفقة الكبرى"، هو إعلان حركة حماس حل اللجنة الإدارية كما طالب الرئيس أبو مازن في مبادرته التي تقول إنه في حالة حلت حركة حماس لجنتها الإدارية ومكنت حكومة الوفاق من القيام بعملها في غزة ستتم إعادة النظر في العقوبات المالية التي طالت موظفي السلطة كما سيتم تشكيل حكومة وحدة وطنية وإعلان مواعيد للانتخابات الشاملة . لكن المشكلة، كيف نفك التداخل والخلط بين مبادرة الرئيس واستحقاقاتها واتفاق القاهرة 2011 واستحقاقاته؟ وفي سياق أي منها يندرج ما جرى أخيرا؟ وهل تنفيذ مبادرة الرئيس تمهيد لتنفيذ اتفاق 2011 أم بديل عنه؟ وخصوصا أن مبادرة الرئيس تتحدث أيضا عن تشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء انتخابات. وهل اتفاق 2011 قابل للتنفيذ الآن بصيغته الأصلية أم يحتاج الأمر لفتحه؟ إذ جرت أحداث كثيرة وكبيرة محليا وإقليميا ما بين تاريخ توقيع الاتفاق 2011 أي قبل ما يسمى الربيع العربي واليوم . وأخيرا، ومع كامل تفهمنا لصعوبة الأوضاع المعيشية لأهالي القطاع، إلا أن المصالحة التي يتوق لها الشعب ليس فقط لحل مشاكل القطاع، بل لإنهاء الانقسام بكل تفرعاته وتقوية الحكومة والسلطة حتى تمكن مواجهة الاحتلال والاستيطان في الضفة وتعزيز فرص قيام الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة . إن كانت المصالحة بدأت في قطاع غزة فيجب أن تظهر نتائجها في الضفة والقدس، ولا يمكن القبول بأن يتواصل الاحتلال والاستيطان في الضفة وتستمر السلطة بدون سلطة وتتوقف كل أشكال المقاومة، وينتقل مركز ثقل السلطة إلى قطاع غزة، بحيث نصبح أمام معادلة غير معقولة وغير مقبولة: سلطة بدون سلطة وبدون مقاومة في الضفة حيث يوجد الاحتلال، وسلطة ذات سلطة ووجود حركات مقاومة مسلحة في قطاع غزة، حيث لا يوجد جيش احتلال! . [email protected]