شهد المغرب في السنوات السابقة حملات سنوية لتسجيل الشباب الذين لا تقل أعمارهم عن 19 سنة للقيام بالخدمة العسكرية الإجبارية. وكان غالبا ما تصاحب هذه العملية توجسات من طرف المعنيين بالأمر وعائلاتهم؛ حيث كان التجنيد العسكري يعتبر في مختلف الأوساط المغربية "كمصاب مخزني" ينبغي تجاوزه وتفاديه بكل الطرق والوسائل، سواء عن طريق التدخلات أو تحريك شبكة العلاقات الشخصية. وهذه العقلية تتناقض تماما مع ما تجري به الأمور في دول أخرى، سواء الأوروبية منها أو غير الأوروبية؛ حيث ينظر إلى نظام التجنيد العسكري كمرحلة ضرورية في حياة كل مواطن لاستكمال شروط مواطنته وإجراء أساسيا في كل الدول العصرية في تربية مواطنيها وتنمية وعيهم السياسي وتقوية شعورهم بالانتماء الوطني، بالإضافة إلى تدريب شبابها وتلقينهم مبادئ الانضباط والعيش المشترك. من هنا يطرح التساؤل عن العوامل التي تؤثر في التعامل الحذر للمغاربة مع هذا النظام والدوافع الفكرية والنفسية التي تجعلهم لا يثقون فيه ويتجنبونه قدر المستطاع. 1. المظاهر المخزنية للتجنيد العسكري تميز التجنيد العسكري المخزني بخاصيتين رئيسيتين تمثلتا في كونه كان نظاما قبليا وانتقائيا: التجنيد العسكري كنظام قبلي من المعروف أن المخزن كان يعتمد، بالإضافة إلى جيش نظامي، على قبائل الكيش التي كانت تشارك في المحلات والحركات المخزنية مقابل إعفائها من الضرائب والحصول على بعض الإقطاعات. لكن أمام تفكك الجيش النظامي بفعل القضاء على عبيد البخاري بعد تورط قادتهم في عدة انقلابات ضد بعض السلاطين العلويين، والهزائم التي تكبدها ما تبقى من هذا الجيش أمام الجيوش العصرية الفرنسية والاسبانية، بدأ التفكير في تحديث الجيش المخزني وعصرنته من خلال إرسال البعثات العسكرية إلى أوروبا واستقدام خبراء ومؤطرين أجانب وإنشاء مصانع للأسلحة الخفيفة. لكن بالإضافة إلى هذه الإجراءات، تم التفكير في فرض التجنيد الإجباري للحصول على وحدات عسكرية، وكان من الصعب ضبطها بحكم ارتباطها بمعاشها وظروفها الاقتصادية والاجتماعية. وهكذا لجأ المخزن إلى فرض نوع من التجنيد العسكري الإجباري على القبائل والمدن. فقد كان "يعرض العدد الإجمالي لكل ناحية، وحسب العدد الذي يفرضه المخزن كان كل عامل يحدد العدد اللازم لكل قبيلة وكل قائد قبيلة يحدد العدد الواجب لكل دوار أو جماعة وكل مقدم يحدد كل عائلة أو كانون ورئيس كل قبيلة يعين الأفراد الملزم تقديمهم". التجنيد العسكري كنظام تراتبي لعل اللجوء إلى هذه العملية كان يفتح الباب لعدة تعسفات في اختيار الأفراد الذين يخضعون للتجنيد العسكري، حيث لا يتم في آخر المطاف إلا انتقاء الأفراد الذين لا يتمتعون بأي حماية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية؛ إذ كانت السلطة وتحريك النفوذ يلعبان دورا أساسيا في إعفاء الكثير من الشباب الذين ينتمون إما لعائلات كبيرة أو من أبناء الأعيان، ليتم الاكتفاء بتجنيد أبناء العائلات الفقيرة، سواء في القرى أو في المدن. ونظرا لهذه التعسفات وكذا لعدم استيعاب مكونات المجتمع المغربي التقليدي لأبعاد هذا النظام، كان "التجنيد الإجباري الذي فرضه المخزن يعاني من عدة مشاكل تمثلت في تهرب القبائل من تجنيد أفرادها، مما جعل المخزن يلجأ إلى اتخاذ عدة تدابير تشددية لإرغام القبائل على الانضباط وملازمة الجيش". وهكذا، كان يتم "إرسال العساكر المفروضة بالأكبال تجاه العاصمة وكيهم بالحديد المحمي حتى يحتفظوا بعلامة تسمح بالتعرف عليهم في حالة الفرار والقيام بحركات لجمع العسكر". وقد أدت هذه الممارسات المخزنية إلى ارتباط التجنيد الإجباري في الذاكرة الشعبية بالإرغام والإكراه، وليس كإطار للتربية على الانضباط وتكوين المواطن الصالح والعصري. ولعل مما زاد من تكريس هذا الفهم الشعبي استمرار السلطات، حتى بعد الاستقلال، على الاستمرار في اتباع العملية الانتقائية المخزنية السابقة نفسها. فغالبا ما كان يتم انتقاء المرشحين للتجنيد العسكري وفق معايير تستند بالأساس إلى التركيز على الفئات من الشباب الذين انقطعوا عن الدراسة في مراحلها الأولى، سواء كانت مرحلة ابتدائية أو ثانوية، وكونهم ينتمون إلى الفئات الشعبية الفقيرة، سواء القروية منها أو الحضرية، والذين لا يستطيعون أن يحركوا شبكة العلاقات القرابية والشخصية والإدارية لإعفائهم من هذا التجنيد، بخلاف أبناء العائلات الأخرى الذين غالبا ما كانوا يعفون من هذا التجنيد، إما لأنهم كانوا يتابعون دراستهم أو لأنهم يلجؤون إلى تدخلات معينة للإفلات من هذا النظام. كما أن الأجهزة التي كانت تتكلف بهذه العملية، والتي تتمركز بالأساس في أجهزة الداخلية والدرك الملكي، عادة ما كانت تحيط هذه العملية بهالة من الخوف والرهبة تجعل المرشح للتجنيد وعائلته يعيشون "كابوسا حقيقيا" ينعكس خاصة من خلال نحيب الأمهات وهن يودعن أبناءهن اليافعين واعتبارهن أن فلذات أكبادهن ستذهب إلى الحرب أو سيتم تجنيدها للقتال. 2. الترسبات المخزنية للتجنيد العسكري إن إقرار هذا النظام في ظرفية سياسية دقيقة من تاريخ المغرب المعاصر وتطبيقه في نهاية الستينات من القرن 20 أدى إلى النظر إلى هذا النظام بالكثير من الشك في النوايا الحقيقية التي تكمن وراء تطبيقه. التجنيد العسكري كنظام تدجيني: إقرار تطبيقه تميز بالأساس بعدة سمات تشددية كانت تميز النظام في هذه الفترة، تتمثل في: - الصراع الشديد الذي كان محتدما بين النظام والمعارضة. - النفوذ الكبير الذي كان للعسكريين في السلطة، سواء في الأجهزة المركزية أو المحلية؛ فقد أسندت للعسكريين عدة مهام، سواء في إدارة وزارة الداخلية أو الدفاع أو في تسيير العمالات وضبطها. - تحكم شخصية مثل الجنرال أوفقير أو الكولونيل الدليمي في الأجهزة الأمنية للبلاد. - فرض هذا التجنيد بعد أربع سنوات فقط من انتفاضة الدارالبيضاء التي عرفت مساهمة فعالة من طرف الطلبة والشباب العاطل. - حالة الاستثناء الذي كان يعيشها المغرب آنذاك. من هنا، فإن فرض هذا النظام في هذه الظرفية الدقيقة بمختلف هذه الملابسات جعل الشباب المغربي، خاصة المنتمي إلى الفئات المتوسطة والفقيرة، يستشعر بأن تطبيقه يخفي نية مبيتة في الضبط والتدجين. ولعل ما زكى هذا التخوف هو طرق التدريب العسكري التي كان يخضع لها المجندون، والتي غالبا ما كانت تتم دون التمييز بينهم وبين الجنود الآخرين. فالطاعة العمياء والصرامة في تنفيذ الأوامر كانت هي الخصلة التي ينبغي اتباعها في هذه التداريب، الشيء الذي كان ينفر المجندين الشباب ويجعلهم يشمئزون من متابعة هذه التداريب مع الاحتفاظ بذكريات سيئة عادة ما ينقلونها إلى ذويهم وأقربائهم وأترابهم، مما يزيد من نفور الشباب من التجنيد. بالإضافة إلى ذلك، ففي إطار الصراع الي كان محتدما بين السلطة والمعارضة، كانت هذه الأخيرة تعمد من خلال الجمعيات الشبيبية والمخيمات والمعسكرات التي تنظمها سنويا إلى تأطير أعضائها من الشباب وتلقينهم تداريب وأناشيد تستبطن إيديولوجيات هذه التنظيمات، والتي كان ينظر إليها النظام بحذر شديد. لذا فقد سعى النظام في مواجهة هذه الأشكال التأطيرية إلى فرض التجنيد العسكري لسحب البساط من هذه المعارضة والعمل على حرمانها من فرصة استقطاب قسم من هؤلاء الشباب وإبعادهم عن التأثيرات السياسية والإيديولوجية لأحزاب المعارضة. كما استخدم نظام التجنيد العسكري في مواجهة بعض العناصر الراديكالية الشابة، خاصة تلك الحاصلة على شواهد عليا؛ إذ كثيرا ما لوحظ أنه بدل إخضاع هذه العناصر لنظام الخدمة المدنية، كان يتم إخضاعها للتجنيد العسكري؛ وذلك للحد من اندفاعها التمردي ولجم تحركاتها وحماسها السياسي؛ فنقل هؤلاء من محيطهم العائلي والمعارفي ومن زخم الحياة السياسية الجامعية لعزلهم في ثكنات عسكرية لاتباع الأوامر وقواعد الانضباط والطاعة، كان الغرض منه إبعادهم والاستفراد بهم لإعادة "تربيتهم". التجنيد العسكري كنظام انتقائي بخلاف الدولة العصرية الأخرى التي يفرض فيها التجنيد العسكري على كل المواطنين، فإن نظام الخدمة العسكرية بالمغرب يبقى نظاما انتقائيا لا يشمل شرائح كل المجتمع. فبالإضافة إلى شرائح الشباب التي تعفى من أداء الخدمة العسكرية إما بسبب التزامات عائلية أو لمتابعة الدراسة، فهناك شرائح أخرى لا يشملها نظام التجنيد إما بسبب ضعف المستوى الدراسي أو كبر السن أو لاعتبارات أخرى. ومما يجسد ذلك، المادة 4 من المرسوم المتعلق بالخدمة العسكرية الصادر في 20 مارس 2002؛ حيث تنص على ما يلي: "تقوم السلطة الإدارية المحلية بإحصاء جميع الأشخاص البالغين من العمر 19 عاما في سنة التجنيد والمتوفرين على مستوى دراسي لا يقل عن نهاية الطور الثاني للتعليم الأساسي؛ وذلك وفق الشروط المحددة سنويا بقرار يصدره وزير الداخلية بعد موافقة السلطة الحكومية المكلفة بإدارة الدفاع الوطني. ويباشر كذلك إحصاء الأفراد المفروضة عليهم الخدمة العسكرية البالغين من العمر أكثر من 19 عاما والمتوفرين على تكوين مهني أو شهادات تخصص تقتضيها حاجات القوات المسلحة الملكية. ويحدد بقرار لرئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الملكية عدد الأفراد الواجب إحصاؤهم سنويا بالنسبة إلى كل فئة من الأشخاص المذكورين وتوزيعهم على الجهات والمؤهلات المطلوبة إليهم". إن مضمون هذه المادة يحدد مجموعة من المعايير الانتقائية التي يتم من خلالها الاختيار الأولي للمرشحين للتجنيد، والتي تتمركز بالأساس حول معيارين رئيسيين يتمثلان في السن والمستوى الدراسي. وبعد هذا الاختيار الأولي يخضع المرشحون لعملية ثانية للانتقاء، حسب المادة 9 من هذا المرسوم التي تنص على ما يلي: "يجب على الأفراد المفروضة عليهم الخدمة العسكرية الذين تم إحصاؤهم، والذين يجوز لهم تقديم طلبات تأجيل أو إعفاء أن يدلوا إلى لجنة الانتقاء التمهيدي بالوثائق القانونية المطلوبة. وتبت اللجنة في جميع حالات الإحصاء، وتعمل على القيام استنادا إلى الأوراق وباعتبار الإثباتات المقدمة، بالانتقاء التمهيدي للأشخاص الممكن تجنيدهم للقيام بالخدمة العسكرية الفعلية". ومن خلال كل هذه العمليات الانتقائية يظهر أن نظام الخدمة العسكرية قد تحول إلى "امتياز" في مجتمع مازالت الأمية تستفحل ضمن شرائحه الشابة؛ إذ بهذه المعايير وهذه العمليات عادة ما يتم حرمان نسبة كبيرة من الشباب من شرف الخدمة العسكرية ومن فرصة التدرب على الانضباط والطاعة والاعتماد على النفس وتلقن مبادئ روح المواطنة. 3. التجنيد العسكري وتربية المواطن لقد كان لقرار السلطة إلغاء التجنيد العسكري الإجباري تحت مبررات مالية أو بسبب هواجس أمنية انعكاسات عدة على سلوكيات المواطنين، خاصة من الأجيال الشابة التي أصبح جلها يعاني من قصور في روح المواطنة، واختلال في تحركه في الفضاءات العمومية؛ حيث إن تفاقم مظاهر ما سمي بالتشرميل، والتحرش الجنسي في أماكن عمومية، والشغب في الملاعب الرياضية، وتخريب الممتلكات العمومية، واحتلال الملك العمومي، وملء المجال العمومي بكل مظاهر التسيب، يعكس إلى حد كبير مختلف مظاهر هذا الاختلال. ففي الوقت الذي تزايدت فيه كل مظاهر المشاركة والتحرك المشترك في الفضاءات العمومية، من شوارع عمومية وساحات شعبية ومقاهي خاصة وسائل النقل العمومي من سيارات نقل صغيرة وكبرى، وحافلات عمومية وخاصة، بالإضافة إلى شبكتي الترمواي والقطارات، مع صاحب ذلك من اختلاط بين الجنسين، نجد أنه على الرغم من أن المقررات المدرسية عادة ما تخصص حيزا لما سمي بمادة التربية الوطنية، فإن ترجمة ذلك في الفضاء العمومي غالبا ما يكون نادرا أو منعدما. ولعل حرمان شرائح عدة من الشباب المغربي من فرصة التجنيد الإجباري واستبعاد فئات أخرى من المغاربة من الخضوع للخدمة العسكرية هو الذي ساهم في هذا "التسيب" الذي يعرفه المجتمع المغربي. فكثرة حوادث السير، وسوء التصرف في الأماكن العمومية، وغياب النظام لدى جل الشرائح المغربية، ما هي إلا انعكاس لضعف في التربية الوطنية وانعدام الشعور الوطني نتيجة لتقاعس مؤسسات الدولة عن القيام بواجباتها التربوية. فالمدرسة والثانوية والجامعة يقتصر دورها على إعداد الأطر وتوزيع الشواهد قصد الحصول على العمل بدون الاهتمام بخلق الروح الوطنية لدى هؤلاء الأطر، والمؤسسة العسكرية لا تهتم إلا بتجنيد قسم معين من الشباب وفق معايير انتقائية خاصة وحسب احتياجات معينة، في حين تترك الغالبية الكبرى من الشباب لثقافة الشارع بمخاطرها وانزلاقاتها. وبالتالي، فعلى الدولة بالمغرب أن تعيد النظر في دورها التربوي من خلال تحديد مهمات جديدة للمؤسسة التعليمية والمؤسسة العسكرية وباقي المؤسسات الأخرى التابعة لها حتى تقوم بدورها الأساسي في خلق المواطن المغربي العصري بتكوينه وأخلاقه وشعوره الوطني. فالشعور الوطني يكتسب ويلقن من خلال التربية والتكوين، وليس فقط من خلال توزيع الوثائق والبطاقة الوطنية. وفي هذا الإطار، ينبغي أن يعاد النظر في نظام الخدمة العسكرية من خلال: - تعميمه على مختلف شرائح الشباب المغربي، سواء كانوا ذكورا أو إناثا. - التحسيس بأهمية التجنيد العسكري ونزع هالة الخوف والفزع المحيط به عنه، واعتباره مرحلة من مراحل تكوين شخصية المواطن والمواطنة المغربية. - إبرام اتفاقيات شراكة بين مؤسسة الأركان العامة للقوات المسلحة الملكية ووزارة التربية الوطنية لإخضاع الطلبة والتلاميذ لتداريب عسكرية أثناء العطل الصيفية ومنحهم شهادات حول هذه التداريب. وبهذا يكون التلميذ قد حصل على تدريب عسكري بشكل متواتر وعلى فترات قبل أن ينهي مشواره الدراسي وقبل دخوله الحياة العملية. - استغلال فترة التجنيد العسكري الإجباري لتلقين الشباب الشعور بالانتماء للوطن، وروح الانضباط، والاعتماد على النفس، الشيء الذي سيساهم في خلق مواطن متكامل في سلوكه اليومي، وفي تعامله مع محيطه، وفي نظرته إلى مجتمعه. - استغلال فترة التجنيد العسكري لتكوين مهني للشباب، خاصة ذلك الذي انقطع عن الدراسة، وتمكينه من إتقان حرفة أو مهنة تساعده على الاندماج في المجتمع بعد استكمال فترة تجنيده. وبهذا النظام ستعيد المؤسسة العسكرية انفتاحها على المجتمع، وستساهم في تقوية روح الوطنية وفي الوقت نفسه بث روح المواطنة من خلال تلقين فئات وشرائح الشباب الانضباط في السلوك، والامتثال للأوامر، وتقوية قيم الاحترام المتبادل. فدور المؤسسة العسكرية لا ينحصر فقط في حماية الحدود، وضمان الأمن الخارجي والداخلي للدولة والمجتمع، بل يمتد ليشمل المساهمة في الإنقاذ، ومواجهة الكوارث الطبيعية، والتطبيب، وكذا المساهمة في تربية المواطن، خاصة بعدما ضعف الدور التربوي للمؤسسة العائلية والمؤسسات التعليمية ودور الشباب والجمعيات الشبابية. للمؤسسة العسكرية دور مدني ينبغي أن تقوم به من خلال نظام الخدمة العسكرية الذي سيساهم بلا شك في خلق هذا المواطن المغربي الذي ما زال لم يتكون بعد.