يتبادرُ إلى ذهن المشاهد للوهلة الأولى وهوَ يرى الصور التي نشرتها الصحف والجرائد الإلكترونية التي غطّت مؤتمر الاستقلاليين أنّ عاصفةً مداريةً مرّت من هناك. مقدار هذا الدّمار لا تحدثهُ السياسية. لكنّ المتأمل لحيثيات المؤتمر يدركُ دون تفكير أنّ ثمّة عاصفةُ تهز الحزب من الداخل. تيّاران متصارعان؛ يقودُ أحدهما شباط من أجل البقاء في منصب الزعيم، وآخر يتزّعمه ولد الرشيد في سبيل زعيمٍ جديد يتمثل في نزار البركة. شأن الاستقلال صورة عن الحزب بشكل عام، والسياسة بشكل خاص، في المغرب الراهن. لكن السؤال الذي يطرحُه هذا الدّمار أكبرُ من المؤتمر وأعمقُ من الكراسي المتكسّرة فوقَ رقابِ المؤتمرين. كما هوَ الحالُ دائماً في جميع سياسات البلاد التي تكسّرُ أجنحة الحلم بمستقبل أفضل فوقَ رؤوس المواطنين. وليست الصحون الطائرة شيئاً جديداً في السياسة المغربية؛ لأن الديمقراطية التي تمثّلها هذه الأحزاب مجرّدُ إشاعات وأساطير، تماماً كالصحون الطائرة في أمريكا وصحاري نيفادا. ندركُ جلياً أننا كمواطنين أمامَ رجال سياسة تحرّكهم رغبة في الهيمنة والسيطرة. بداخلِ كلّ واحدٍ منهم دكتاتورٌ صغير. بعدَ زيّان الذي سعى إلى البقاء في المنصبِ فقط لأنه الأكبر من بين المؤتمرين ولا يرى أحداً أكفأ منهُ ليقود الحزب، ها هو شباط يؤكد، كما العادة، أنّ الديمقراطية التشاركية في مضمونها السياسي لا تتأتى إلا بمشاركة الجميع في حفلةٍ سياسية توزّع فيها الضربات والجروح بشكل ديمقراطي وبالمساواة، ويأخذ كلّ مؤتمر حصّته من الأطباق والصحون الطائرة والكراسي الطائشة، ما دامَت الرغبة الحصول على كرسي، فقد حصلَ الراغبون على كراسي تليقُ بهِم في المعركة السياسية. هيَ إذن مهزلة من مهازل السياسة المستمرّة في مشهد حزبي يعيشُ أزمة حقيقيّة. أزمةُ أخلاقٍ وانعدام روح المسؤولية لدى السياسي المغربي. أحزابٌ تتطاحنُ في ما بينها، تأكل نفسها بنفسها، تعضّ ذاتها وتنخرُ جسدها من الداخل. إنها تعطي مثالاً عن الديمقراطية التي تريدها غداً وهيَ تقود الحكومة. تقودُ حياة شعبٍ وضع ثقته في ''نخبها'' من أجلِ أن تترافع على قضاياه وترفعَ علم بلاده نحوَ السماء. هيَ في الحقيقة أحزاب تترافع فوقَ بعضها البعض في سبيل الظفر بمنصب في السياسة، منصب ينسيها همّ القضية الرئيسة، ثمّ ترفعُ علمَ البلاد نحو السماء فتهوي بهِ نحوَ الحضيض عبرَ الإشعاع الذي تخلّفه هذه الأحزاب والصورة التي تخلقها عن السياسي في المغرب لدى العالم ودوله. نعم، هيَ كلّها أهدافٌ يفهمها السياسي بشكل مقلوبٍ ويطبّقها كما يشاء. إنّ الأحزاب التي لا تفكّر في مصلحة الوطن والمواطن إلا فوق المنابر وأمام التلفاز، لا يمكنها أن تقدّم شيئاً لهذا الوطن والمواطن إلا صحوناً طائرة بأطباقٍ مريرة وبرامج فقدت طعمها من كثرة الاجترار. ومثلُ هذه الأحزاب والنخب السياسية تؤدّي بالناس إلى النفور من السياسة وكلّ تبعاتها. وسيكون لها أثرٌ سلبي على مستقبل المغرب الذي ستقوده حكومات تعتمدُ على طبقة من السياسيين لا يفهمُ الراجح فيهم عقلاً معنى الحزب والمنصب والسياسة. لقد ضيّعت الأحزاب بوصلتها وفقدت مصداقيتها أمام الشعب الذي يتابعُ بحسرة بليغة مستجدات السياسية. فهؤلاء المتكالبون على منصب في الحزب هم أنفسهم من يتكالبون حول المواطن بوعود زائفة عند كلّ اقتراع. يظلّ المواطنُ بلا بديل. فينظرُ إلى أي الفريقين أقل فساداً وغباءً. ويعرفُ هوَ نفسهُ أنّ الرداءة لا تنتجُ إلا الرداءة وأنّ بناءً بلا أساس يسقطُ عند أدنى اهتزاز. سقطت صورة السياسي وسقط معها مستقبل الحزب ومصالحُ الوطن. لا يمكنُ بأي حال من الأحوال لسياسي يقاتل أخاه في الحزب نفسه واللون والفكر والتيار أن يقدّمَ شيئاً للمواطن. فهؤلاء الذين كادت رقابهم أن تتطاير من أجل منصبٍ في الحزب سيفعلون المستحيل بأي وسيلة كانت من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية في سبيل تقاعد مريح وميزانية وزارة يصرفها كيف يشاء، وأن الترافع عن الفقير والضعيف لا يمكن أن يقومَ بهِ شخصٌ طمّاعٌ إلى أن يضخم ثروة، يسعى إلى منصب - أي منصبٍ - ويتشبث بالكرسي حتّى لو طار في الهواء. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يخلّق السياسي المغربي، أو على الأقل أمثالُ هؤلاء الساسة، الفعل السياسي، ولا يمكنهم تمثيل ديمقراطية تسعى بكلّ شفافية إلى تخليق المجتمع. فالسياسة أخلاقٌ وممارستها تستوجبُ قدراً كبيراً من الحنكة ورجاحة العقل. هيَ إذن شخصياتٌ سياسية تتطايرُ أهواؤها كما تطايرت الصحن في ليلة أمس، وتتهشّمُ صورها كما تهشّمت كراسي قاعة المؤتمرات... تماماً كأحلام الشعبِ بنخب تمثّله في البرلمان وفي المحافل الدولية. هؤلاء لا ينتظرُ منهم مشروعٌ اجتماعي مدروس. ولا يمكنُ لهم أن يلغوا تقاعد البرلمان ما دامت حروبهم تقومُ فقط من أجل تمثيلية في الحزب، فمن فطمُ على شيءٍ شاب عليه. فكيفَ لنا أن نرغبَ في طبقة سياسية جيدة وقد فطمت على الطمع والجشع وفي قلبٍ كلّ صغيرٍ منهم مشروع دكتاتور؟ وكيفَ لنا أن نبني مجتمعاً يثقُ في الغد ما دامت الثقة منعدمة في النخب التي تقود سياسة أمور الناس؟ شيءٌ جيدٌ يصلحُ في السياسة أنها مصدرٌ للسخرية والتهكم، فبعد الصحن والأطباق الطائرة سنكون أمام ظاهرة جديدة في السياسة في قادم المؤتمرات بعد لشكر وزيّان وشباط، وكلّها أسماء بلغت من الجهلٍ عثياً، وكبُرت لتشيخ الآمال فيها. في انتظار ظاهرة جديدة، يبقى المواطنُ أضعف حلقة في السياسة. طبقةٌ تستغني وتتضخم ثرواتها، وشعبٌ تتطايرُ أحلامه في السماء وتنكَسرُ طموحاته فوقَ رأسه كحالة سيزيف يحملُ الصخرة، غيرَ أنّ سيزيف عوقبَ من لدن الآلهة بصخرة يحملها إلى الجبل، والمغاربة عوقبوا بأنفسهم بالابتلاء بحملٍ ثقلٍ ورواسب السياسة فوقَ قلوبهم إلى حين... فاللهم لا حسدَ في سياسيين. واللهم لا تحاسبنا بما فعلوا فينا.