بتصويت الأكراد ب''نعم'' في استفتاء تقرير المصير (بنسبة 92%) يكونون قد ووضعوا اللبنات الأولى لتأسيس دولة كردية في شمال العراق. صحيح أن تنظيم استفتاء لا يعني قيام دولة في الأمد القريب، لأن الأمر سيتطلب مفاوضات محلية وإقليمية ودولية شاقة، لكن تنظيم الاستفتاء وموافقة الأكراد بأغلبية ساحقة يخلق أمرا واقعا في المنطقة لا يمكن التغاضي عنه. والواضح أن هذه الخطوة ستقابل بمعارضة شديدة من جميع الدول المجاورة للكيان المقبل، فقيام دولة كردية في منطقة تنخرها الصراعات العرقية والمذهبية سيغذي التوترات في الإقليم، بحكم وجود أقلية كردية في دول الجوار(تركياوإيرانوسوريا) سترغب بدورها في اتخاذ تجربة أكراد العراق نموذجا تسير على منواله. لقد جاء تنظيم استفتاء إنشاء الدولة الكردية المتوقعة، في الواقع، ثمرة لمواقف داعمة من القوى الدولية الأساسية. فهذه الأخيرة، ورغم إصدارها بيانات رافضة لخطوة الأكراد، فهي -وإن فعلت ذلك- إنما للتمويه والتغطية والاستهلاك الإعلامي لا غير؛ ذلك أن القوة الأولى في العالم (و.م.أ) تعد بمثابة الحليف الأبرز للأكراد بسبب صفقات سابقة تتعلق بدورهم في إسقاط نظام صدام حسين. والأكراد يصرحون بذلك علنا، ولا يخفون كونهم تلقوا وعدا من الصديق الأمريكي بدعم استقلالهم عن عراق ما بعد صدام. ولا شك أن الدعم الأمريكي المضمر لاستقلال كردستان يأتي في سياق مشروع تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات على أسس قومية وطائفية، في انتظار الفصل بين شيعة وسنة العراق لاحقا. والاستفتاء ما كان ليُجرى من أساسه لو لمس الأكراد معارضة دولية حقيقية لاستقلال الإقليم. ومن المتوقع أن تكون سوريا هي المنطقة المقبلة لتفريخ كيان كردي آخر بدعم أمريكي أيضا. فأكراد سوريا هم الحليف الأساس لأمريكا في الصراع الدائر في سوريا. وأمريكا هي التي أنشأت المليشيات الكردية في سوريا، ودعمتها بالسلاح في إطار محاربة "داعش". ولا ريب أنه ستقع مجازاة أكراد سوريا نظير الخدمات التي أسدوها في محاربة الإرهاب بوضع متقدم في سوريا ما بعد الحرب، لن يقل عن حكم ذاتي سرعان ما سيتحول إلى كيان مستقل تماما كما حدث في العراق. لكل هذه الاعتبارات يبقى الاعتراف الرسمي بالكيان الكردي مسألة وقت ليس إلا، في انتظار نضوج الوضع الإقليمي لجهة تقبل واقع قيام دولة كردية. غير أن الكيان الجديد سيواجه تحديات كبيرة، فأبرز امتحان ستواجهه الدولة المتوقعة- بعد امتحان فك الارتباط مع العراق ونيل الاعتراف الدولي- هو سبل التعايش مع جوار إقليمي رافض لقيام دولة في كردستان. الدولة الناشئة ستجد نفسها في عزلة: مطوقة بالكامل من ''الأعداء'' العرب والفرس والأتراك، إلا إذا استثنينا متنفس الحدود السورية كمنطقة رخوة بسبب الحرب الدائرة حاليا، رغم أن أمر سيطرة أكراد سوريا عليها لم يحسم بعد. كما ستجد الدولة المفترضة نفسها إزاء صراعات داخلية لا مفر منها مع أقليات قومية ستكون جزءا من الدولة الجديدة، وهم العرب والتركمان والسوريان. فالأكراد أدخلوا عددا من المناطق المتنازع عليها مع العراق ضمن الاستفتاء المنظم. ومن المصادفة أن هذا التوتر القومي سيتركز أساسا بالمناطق الغنية بالنفط، وهذا ما سيضفي على الصراع طابعا اقتصاديا. ولا شك أن الأقليات القومية تلك ستجد عونا من دول الجوار؛ فتركيا ستجد الفرصة للتدخل بحجة دعم التركمان، وكذلك سيفعل العراق بالنسبة للأقلية العربية. ومن المتوقع أن تكون مجالات الاختلاط القومي تلك، الغنية بالنفط، جزءا من صراع مقبل بين الدولة الجديدةوالعراقوتركياوإيران؛ فبالنسبة للعراق هناك مشكلة موروثة عن فترة تطبيق الحكم الذاتي في الإقليم، حيث لم يقع ترسيم الحدود بين الإقليم والعراق الفدرالي، كما لم يُحسم أمر عدد من المناطق التي ظلت موضع خلاف بين الجانبين، مثل كركوك ومناطق من محافظة ديالى ونينوى. ومن ناحية أخرى فإن تركيا، التي تعتبر المنفذ الوحيد لمرور أنابيب النفط الكردي نحو الخارج، تتمسك بحقها في حماية الأقلية التركمانية التي تستقر بعدد من محافظات كردستان وشمال العراق، في محافظاتكركوك ونينوى وأربيل وديالى، وخصوصا في مدن كركوك وتلعفر وآمرليوط وزخورماتو وكفري والتون كوبري وداقوق. ويرتبط التركمان مع تركيا بعلاقات ثقافية ولغوية وثيقة، بحكم انحدارهم من قبائل الغز من الأوغوز الأتراك. أما إيران فتخشى بدورها من تبعات قيام دولة مستقلة على أمنها القومي، خصوصا أنها تحتضن أقلية قومية كردية تعبر عن المطالب الانفصالية نفسها، وتخوض مناوشات عسكرية متقطعة مع جماعات كردية تتخذ من الحدود مع العراق منطقة لشن عملياتها المسلحة ضد الجيش الإيراني. وفي مسار مفاوضات تشكيل الكيان الجديد، العلنية منها والسرية، ستطفو على السطح هواجس ومخاوف دول الجوار من السياسات التي سوف ينهجها الكيان الجديد من قضية الأقليات الكردية في تلك الدول. إذ يبقى من الصعب توقع موقف الدولة الكردية بعد قيامها من مطالب بني جلدتهم. هل ستتنكر لأكراد تركياوسورياوإيران كما تفعل اليوم طمعا في استرضاء دول الجوار ونيل القبول بالدولة المتوقعة؟ أم أن سياسة الكيان الكردي ستتغير بعد قيام الدولة للتحول نحو تبني مطالب الأقلية الكردية في دول الجوار، وتتجه نحو تبني القضية الكردية في شموليتها من خلال العودة إلى الحلم القديم المتعلق بإنشاء كردستان الكبرى بعد تقطيع مجالات الأكراد من الدول المجاورة؟. وأمام هذه الإكراهات المعقدة، ورغم الدعم المستتر الذي تلقاه الخطوة الكردية من عدد من الأوساط الدولية، فإن إعلان نتيجة الاستفتاء لن تكون سوى خطوة مرحلية في مسار شاق من التوافقات الإقليمية والدولية، قد تسمح في نهاية المطاف -وفق شروط معينة- بوجود كيان كردي يتمتع بمقومات البقاء والاستمرار وظروف التعايش مع دول الجوار. إلا أن هذه التوافقات-إن تمت بالفعل-فلن تكون سوى مسكنات وقتية لترضية دول الجوار، وطمأنتها، ولتخفيف حدة الألم الذي سيسببه خلق كيان كردي لدول الجوار، طالما أنه من المستحيل توقع إيجاد حلول سريعة ونهائية للإشكالات المستعصية داخل كردستان وفي علاقتها بدول الجوار. إذا لم تمض الأحداث وفق التصور الذي بسطناه، فإن الرأي الذي مفاده أن قيام الدولة الكردية هو مشروع مستحيل سيكون راجحا. ويعتقد بعض المحللين أن تنظيم الاستفتاء ليس سوى خطوة كردية من قبل الحزب المسيطر في الإقليم للتغطية على قضايا داخلية مرتبطة بتدبير قطاع النفط وحكم الإقليم. وهناك من يرى أن الخطوة الكردية ليست سوى ابتزاز للعراق الفدرالي للدخول في مفاوضات تسفر عن تحصيل الأكراد للمزيد من المكاسب، ولاسيما تسوية القضايا العالقة بين حكومة الإقليم والحكومة الفدرالية مقابل تجميد نتائج الاستفتاء. *كاتب وأستاذ باحث [email protected]