وخسر قتلته، وخسئ جلادوه ، وخاب خونة مصر الذين سطوا على إرادة الشعب المصري واغتصبوا كلمته، ووضعوا شرفاءه ونزهاءه والمخلصين من قادته ورواده في أغلال السجون. ولم تستح ضمائرهم، وهم الفاقدون للضمير، أن تمتد أيديهم إلى واحد من أشرف المناضلين في مصر من أجل مصر وشعب مصر، وقد بلغ من العمر عتيا، واحترق جسده تفانيا في خدمة أنبل الغايات. ذلكم المرشد الشهيد محمد مهدي عاكف الذي أسلم روحه لبارئها، في الفاتح من محرم الحرام، شاهدا على ظلم الغصبة، غصبة الأمة، وعلى جور الفسدة، فسدة البلاد، شهيدا قد أوفى واستوفى عهده مع الله، فحق له وعد الله الذي اشترى منه روحه. "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (111) التوبة. مات سجينا، قد منع عنه الدواء، وهبها كانت القاضية، فكل الناس يموتون، ولكنه استشهد فارتقى وارتفع سموا وشرفا، ورفع الله له ذكره في السماء والأرض، ومات قتلته بغيظهم، وارتد عليهم كيدهم، حينما طمسهم غباؤهم وحقدهم وخوفهم، فلم يفرجوا عنه ليموت على فراش بيته، فأشرق اسمه شمسا سطعت في كل الأصقاع، وصلت عليه العرب والعجم وبكل اللغات في كل أرض الله، صلاة الغائب، وترددت كلمة الإخوان المسلمين من جديد، بكل فخارها وعزها، وبكل لغات الأرض، كما لم تذكر كلمة مثلها من قبل ولا من بعد. وانهالت اللعنات على قتلته وسجانيه، من كل أنحاء المعمور، بما سوف تظل مطاردة لهم، ما داموا فوق هذه الأرض، بل ما دامت السماوات والأرض، وإلى يوم الدين، يوم يعرضون على ربهم لا تخفى منهم خافية، وقد أحاطت بهم خطيئاتهم، ولاحقتهم الدماء التي سفكوها بالآلاف، أبرياء أصحابها وعزل مسالمون. أسدا ضرغاما كان في حياته، وأسدا ظل إلى حين مماته، فلم يعط الدنية في دينه، ولا في وطنيته، قاتل صهاينة إسرائيل سنة 1948، عند بدء بغيهم، وتأسيس دولة بغيهم، وربى الشباب على مقاتلتهم، وقاتل الإنجليز الاستعماريين، وروّع عساكرهم في ثكناتهم، وربّى الشباب على مقاتلتهم، ودرّب طلاب مصر في معسكرات التجنيد، إلى أن اندحر المحتل وجلا عن أرض مصر، وكافح ضد الطغيان، مؤازرا ومدعما الحركة العسكرية التي لم يكن ضباطها سوى غمرا مغمورين لا يعرفهم أحد، فأصبحوا بفضل مهدي عاكف وإخوانه ورجاله، أبطال ثورة 23 يوليو 1952، عندما كان هو المسؤول عن طلاب الإخوان المسلمين، وكان هؤلاء الطلاب والشباب هم عصب حركة الإخوان الذين حموا حركة الضباط الأحرار، حتى لا ينقلب عليهم الشعب في الشوارع، وما كان أسهل من ذلك ولا أيسر، ورجال فاروق كانوا لا يزالون على تنفذهم في البلاد. هذا الذي كافح وطنيا من أجل تحرر مصر ورفعتها، وكافح قوميا عربيا، من أجل خلاص العالم العربي، وكافح إسلاميا، ينشر لواء الحركة الإسلامية في أقطار العالم، من أجل قوة العالم الإسلامي ووحدته، هو الذي عرفته كل العهود الحاكمة في مصر سجينا صامدا، فقد ابتلعته سجون الملك فاروق مثلما ابتلعته سجون عبد الناصر والسادات رفيقيه السابقين في التنظيم الخاص للإخوان المسلمين، وكذا سجون مبارك، ثم سجون الانقلابيين الجدد على إرادة الشعب المصري وديمقراطيته الوليدة، كنقطة ضوء تلألأت في بحر السبعة الاف سنة من عمر مصر. في حياته لم يكن المرحوم مهدي عاكف رجل نظم الأقوال ونسج الأفكار بقدر ما كان رجل المواقف ومهندس الميدان، بالحنكة في التنظيم والتأطير والتدريب، وخصوصا في أوساط الشباب، فتلك صنعته التي أتقنها دون منازع، ومهارته التي حازها عن موهبة، من يوم أن ولاّه مسؤوليتها إياها المرشد المؤسس حسن البنا، بعد أن اكتشفه بثاقب نظره، فوجّهه من تلقي علوم الفلسفة إلى تلقي علوم الرياضة. بحنكته التنظيمية، سهر على حماية تنظيم الإخوان في السجون بهيكلته وإدارته طيلة 20 سنة من مكوثه بها، ثم ولما أفرج عنه سنة 1974، ابتعث التنظيم من جديد حتى أصبح في قوته كأن لم يضرب من قبل، بل إنه هو من أشرف على تمديد حركة الإخوان المسلمين عبر العالم، وفي القارات الخمس، بإقامة المعسكرات الشبابية والروابط والمؤتمرات، بعيدا عن التوتر السياسي مع الأنظمة وبعيدا عن التشنج المذهبي، وهو النهج التربوي الذي سار علي عليه حتى إنه قد جهز عشرة آلاف الشباب للذهاب إلى لبنان سنة 2006 لدعم حزب الله في رد العدوان الإسرائيلي المدمر لبيروت، معرضا عن تحامل كثير من الأصوات لوصم المعركة بمذهبيتها الشيعية. رحم الله المرشد الشهيد، الذي تذكر وفاته باستشهاد القائد المفكر سيد قطب، حينما أراد قاتله عبد الناصر إقباره وأفكاره بإعدامه، فانقلب العدوان على صاحبه، إذ سطع نجم سيد قطب، وعاشت أفكاره، وعلا ذكره، بينما أفل نجم عبد الناصر وانهزم جيشه وباد نظامه، وعلى الطريق نفسها تتوهج من جديد دعوة الإخوان المسلمين بتوهج روح قائدها مشعة في الآفاق والآماد.