-1- كانت "السياسة الثقافية" ولا تزال موضوعا مركزيا وأساسيا للتخطيط المستقبلي الذي يرمي إلى تحقيق أهداف حضارية لها علاقة بحفظ النسيج الاجتماعي للدولة الحديثة، وضمان إشعاعها على الخريطة الدولية. وقبل أن نتطرق مغربيا إلى وضع الثقافة وقطاعها في السياسات الحكومية، علينا أن نلقي نظرة موجزة على مكونات القطاع الثقافي في المغرب الراهن، لنتعرف عن قرب على حجم هذا القطاع وأهميته ومدى تأثيره على النسيج الاجتماعي. إن الفن والإبداع واللغة والشعر والفلكلور والمسرح والفنون التشكيلية، وكل الفنون المرئية والفنون التعبيرية والفنون التطبيقية، والصناعات التقليدية، والنحت والتراث المعماري، والفن الصوتي، والفن الحركي، والرقص والغناء والموسيقى والسينما، والسيرك، والألعاب السحرية ومسرح الميم والدمى والتمثيل وكل وسائل التعبير والتواصل والأفكار، والكتابة والتأليف والتدوين، إضافة إلى المكتبات والمدارس والمعاهد الفنية والمتاحف على اختلاف اختصاصاتها، هي المكونات والركائز الأساسية للقطاع الثقافي في كل زمان ومكان، وهي نتاج المواطن الإبداعي والفكري والحضاري، وهي التعبيرية الذاتية للوطن التي ترتبط بقيم ومفاهيم وتطلعات المواطن الحضارية والفكرية والإبداعية. بذلك يحتضن هذا القطاع في الزمن الراهن وفي الأزمنة الغابرة، آلاف الكتاب والشعراء والباحثين والفنانين، والصناع التقليديين، الذين يصغون بحسهم الإبداعي صورة المغرب الحديث... كما يحتضن هذا القطاع الواسع والشاسع تراث الأجيال السابقة من المبدعين والكتاب والشعراء والصناع والبنائين الذين صاغوا في الأزمان الغابرة صورة المغرب الحضارية بقيمها وجماليتها، وهي الصورة التي مازالت ناطقة بوجودنا في الخريطة الدولية. -2- والسؤال: ما هو موقع هذا القطاع الحضاري المتميز في السياسات الحكومية بمغرب عهد الاستقلال؟ في واقع الأمر، إن حكومات المغرب الأولى وأحزابه التقليدية لم تعر الثقافة أي اهتمام؛ ذلك لأنها كانت تعتبرها وسيلة للترفيه وملء أوقات الفراغ، وأنها لا تستحق أي اهتمام سياسي في برامجها وسياساتها. في مراجعتنا لتاريخ الحكومات المغربية الأولى، لم نجد أثرا يذكر للشأن الثقافي، اللهم المؤسسات التي أنشأتها الحماية الفرنسية (مصلحة الآثار والفنون الجميلة والمواقع التاريخية) والتي أدمجت بداية عهد الاستقلال في وزارة التربية الوطنية، ثم في وزارة الإعلام والسياحة، وفي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بعد ذلك. هكذا ظل التعامل مع القطاع الثقافي بالمغرب الراهن خارج اهتمام السياسات الحكومية، إلى سنة 1976 حيث تم الإعلان عن وزارة الثقافة والتعليم العالي والثانوي والأصيل وتكوين الأطر، ليبدأ الحديث السياسي عن الثقافة. وتاريخيا، أصبحت الثقافة عنصرا واضحا من عناصر السياسة الحكومية سنة 1974 (أي بعد عقدين من حصول المغرب على استقلاله)، بعد تعيين الحاج محمد باحنيني وزيرا للدولة مكلفا بالشؤون الثقافية، إلا أن الثقافة ظلت مع ذلك في السياسات الحكومية ولفترة طويلة مرتبطة بالمواقع والآثار التاريخية، حيث لا علاقة لها بالمكونات الثقافية الأخرى. -3- كان للقطاع الثقافي أن ينتظر العقد الثامن من القرن المنصرم، ووصول الدكتور سعيد بلبشير إلى وزارة الثقافة، ليوسع آفاقها بإنشاء مندوبيات ومدارس للمسرح والتشكيل والموسيقى والتراث، وتحسيس السياسة الحكومية بتأثير القطاع الثقافي على القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، وأهميته الجماهيرية، إلا أن النتائج كانت ضعيفة وهزيلة، كميزانية هذه الوزارة، لا تساوي شيئا مذكورا، حتى وإن كانت قد حركت الآلة الإعلامية للحديث عن الثقافة وأهلها وأنشطتها على المنابر الرسمية، المكتوبة والمسموعة والمرئية. فهل يعني ذلك أن وصول سعيد بلبشير إلى وزارة الثقافة فتح أمامها الباب للانخراط في السياسات الحكومية؟ شخصيا لا أعتقد ذلك، لأن هذه الوزارة استقبلت بعد بلبشير أسماء ثقافية أخرى لحكومات عديدة ذات إيديولوجيات وأهداف سياسية مختلفة، ولكنها ظلت وزارة بلا سياسة، تعاني من انعزالية في مخططات الدولة؛ إذ لم يطرأ أي تغيير على أوضاعها، كما على الأوضاع الثقافية بالبلاد. إن التصورات التي حملها بعض وزراء الثقافة إلى هذه الوزارة حولت القطاع الثقافي إلى أداة مسخرة لأهداف حزبية أو إيديولوجية مخالفة لطبيعة الثقافة وأهدافها وقيمها، لا علاقة لها بمضامين الثقافة وصناعاتها المتصلة بالطباعة والنشر والكتاب وحقوق التأليف والمسرح والفنون التشكيلية والموسيقى والتراث الفلكلوري، ولا علاقة لها أيضا لا بثقافة الطفل والمرأة والشباب ولا بالصناعات الثقافية في زمن العولمة، الصناعات التي تصر على فتح كل الأسواق في وجه الثقافة لتلعب دورها في الإشعاع الحضاري؛ إذ أعاد بعض الوزراء الثقافة إلى المفهوم الكولونيالي الذي يعتبرها أداة للتسلية، ومضيعة للوقت. -4- اليوم، وبعد ستة عقود من حصول المغرب على استقلاله، مازلنا نضع السؤال تلو الآخر في كل دخول ثقافي: ما هو وضع الثقافة في السياسات الحكومية المتعاقبة؟ نعم، لنا وزارة تحمل اسم الثقافة، لنا نقابات فنية للتشكيل والموسيقى، ولنا اتحاد كتاب المغرب، ولنا مكتبة وطنية ومتاحف ومهرجانات وهيئات جمعوية ثقافية وفنية، ولنا عشرات الأسماء المرتبطة بهذه المؤسسات، همها الظهور والارتزاق والكسب الحرام على حساب الثقافة، وإفساد القطاع واغتيال أي مبادرة لإصلاحه وإلحاقه بالعصر. فكيف لهذه الوضعية أن تبدع سياسة ثقافية واضحة المعالم؟ وكيف للدولة في ظل هذا الوضع أن تجعل من الثقافة واجهة حضارية في زمن العولمة؟ والسؤال المحير: ما هي مسؤولية الأحزاب السياسية والهيئات الحقوقية والنقابات في الأوضاع المتردية لوزارة الثقافة وسياستها الفاشلة؟ إن الوضعية الثقافية الراهنة، تجعل من "السياسة الثقافية" سؤالا مؤجلا إلى زمن آخر، بل تفرض على هذه السياسة أن تظل غائبة ومغيبة، وهو ما يجعل المغرب خارج أسئلة العولمة واهتماماتها وقيمها الحضارية. أفلا تنظرون...؟