حول العلاقة الملتبسة بين الفيلم الوثائقي والصحافة الاستقصائية وما قد يجمع عالميْهما معا، أو يفرقهما، دار نقاش جمع مجموعة من المتخصصين، مساء الخميس بالمركز الثقافي أحمد بوكماخ بطنجة، ضمن فعاليات مهرجان أوروبا- الشرق للفيلم الوثائقي. "أي دورٌ للصحافة الاستقصائية في تطوير الفيلم الوثائقي؟" هو عنوان الندوة الفكرية التي نظمها المهرجان بشراكة مع مركز هسبريس للدراسات والإعلام، وقناة دويتشه فيلله الألمانية، وأدارتها الإعلامية إيمان أغوثان. عبد الوهاب الرامي، باحث وأستاذ بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، أوضح أن اعتماد المصطلحات سيحيلنا بالضرورة من الفيلم إلى السينما بما تحمله من حوار ومؤثرات وسيناريو. أما الجانب الوثائقي فهو المتعلق بالبحث القبلي، فيفهم "الفيلم الوثائقي الاستقصائي" بهذين المعنيين الأساسيين. واستطرد الرامي أن سُقوط الجانب الاستقصائي عن الفيلم يجعله بشكل مباشر فيلما وثائقيا فقط، مورداً أن كل ما يرتبط بالاستقصاء يرتبط بالضرورة بالشأن العام، حتى لو كان تعلق بالفن أو الثقافة مثلا؛ "فعمل الصحافي في الأخير سيصب في تحديد المسؤوليات، باعتبار صحافة التحري تبحث عن المسؤوليات البشرية فيما يخص الخلل الوظيفي داخل المجتمع، وحيثما كان الخلل تكون فرصة للاستقصاء، يدخل في ذلك النجاحات المفاجئة لأشخاص بعينهم أو الشطط في استعمال السلطة وغيرهما"، يوضح الرامي. أساسيات ثلاثٌ رأى الرامي، في مداخلته، أنها لو انتفت فلن يكون للعمل من الاستقصائية نصيب، "وهي: من المسؤول؟ من المستفيد من الظاهرة أو الخرق الحاصل؟ من المتضرر من هذا الخلل؟". ستيفان بوخن، إعلامي مستقل يشتغل بالقناة الأولى الألمانية، أشار إلى أن العمل الوثائقي الاستقصائي يستدعي بالضرورة وجود موضوع بعينه في تقرير واحد؛ "فنحن لا نتكلم عن الكون، بل عن موضوع واضح نريد أن نستقصي حول حقيقته، فلو كان الموضوع مثلا هو أن مدير المخابرات الألمانية كاذب، فإنني سأبحث عن إثباتات وبراهين، وأجمع الشواهد ثم أبثها من خلال سيناريو قبل أن أحولها أخيرا إلى فيلم وثائقي استقصائي، دون أن يدعي أثناء ذلك امتلاك الحقيقة المطلقة". ملتقطا خيط الكلام ومتحدثا عن جدلية الحقيقة في الفيلم الاستقصائي، اعتبر جمال الدلالي، مدير إدارة الإنتاج بقناة الجزيرة، أن صانع الفيلم أو الصحافي الاستقصائي "إذا أراد الحقيقة فلا بد من التعامل مع الفكرة كالمحقق البوليسي في جريمة ما.. كل ما أمامه مشكوك فيه، ومن خلاله يحاول أن يصل ما يعتقد أنه الحقيقة". وأضاف المتحدث: "كصناع أفلام وثائقية، الشيء الذي نقف عنده أن صانع الفيلم يتدخل في الحقيقة بشكل أو بآخر، ولعل أهم التعريفات المرنة التي صبّت في تعريف الفيلم الوثائقي هو أنه التجسيد المبدع للواقع، فمعروف أن دخول الإبداع قد يحوّر الحقيقة من خلال الإخراج، استعمال المؤثرات، اختيار الشخصيات". وحول أهمية الفيلم الوثائقي في دول الشرق، اعتبر الدلالي أن وجود العراقيل المبالغ فيها المتمثلة في صعوبة الوصول إلى المعلومة، والتعامل مع المصدر مع إخفاء هويته، والأرشيف.. كلها عناصر إضافية للأصلية في صناعة الفيلم الوثائقي، حيث تجعل له أهمية أكبر في الشرق مقارنة بالغرب، فتصبح له مسؤولية أكبر حين يستفز المجتمع والرأي العام". مُخالفا ما ورد في الفكرتين السابقتين، رأى رضا بنجلون، مدير القسم الوثائقي بالقناة الثانية المغربية، أن الوثائقي والعمل الصحافي عملان بعيدان عن بعضهما؛ "فالصحافي يعمل تحت الضغط، وهو منشغل بالوصول إلى المعلومة وكيفية إيصالها، بينما مخرج الوثائقي مثلا قد يبحث عن قصة إنسانية ما في نفس الموضوع". وواصل بنجلون: "عندما بدأنا خانة الوثائقي في القناة استغربنا لنسبة المشاهدة المرتفعة والتعطش الكبير للمخرجين الشبان لتصوير أفلام وثائقية، ففهمنا أن هذا النوع يجسد مصالحة للمغربي مع صورته وتاريخه". وحول سؤال لمسيّرة الندوة إيمان أغوثان عن "الوثائقي الاستقصائي" ومدى قوة وجوده كجنس قائم بذاته في الغرب عموما وألمانيا خصوصا، أوضح الصحافي الألماني ستيفان بوخن: "يجب أن نعلم أن الاستقصاء هو النقد، والنقد يعني وجود طرف ثانٍ يتعرض للهجوم، بحيث أثبت وقائع معينة في الطرف الثاني، حكومة كان أو وزارة أو شركة كبيرة، مما يعني أن هذا الطرف قد يتحول إلى عدو نهاجمه". وزاد: "أريد أن أوضح أيضا أن أوروبا ليست هي جنة الأفلام الوثائقية فهو تخيل خاطئ .. فعلا، هناك حرية، وقد أقول ما أشاء في حق سياسي ما؛ لكن العمل الاستقصائي يواجه صعوبات وتحديات، فهم في الحكومة مثلا يكرهوننا وقد يستخفون بنا، فهم عندنا يفضلون أيضا الأبواق التي يريد أصحابها الامتيازات والأسفار رفقة السياسيين والإقامة في الفنادق الفاخرة". وعن أهمية الفيلم الوثائقي الاستقصائي، إيجابا وسلبا، أورد جمال الدلالي مثال فيلم "الخيط الأزرق الرفيع" الذي أُخرج في أواخر الثمانينيات، "حيث تابع المخرج قضية متهم حوكم بالإعدام وبقي في السجون ولم ينفذ فيه الحكم، وبعد صدور الفيلم استطاع أن يفرض إقامة محاكمة أخرى ثبتت خلالها براءته". في الجانب الثاني، يضيف الدلالي، "سنة 2004، والتي صادفت دورة بوش الانتخابية الثانية، كان هناك وثائقي يحاول الوصول إلى حقيقة أن بوش تهرب من الخدمة العسكرية بمحاباة ما؛ لكن تبين أن الوثيقة لم تكن حقيقية، فانتهى إلى غير مراده". يذكر أن الندوة اختتمت بنقاش عام دار بين الحضور والمتدخلين، وصبّ خصوصا حول ارتباط الوثائقي بالصحافة الاستقصائية وحقيقة وجود أرض مشتركة بينهما.