هي سلسلة عائلية تملك الثروة الوطنية.. وتصل الأرقام إلى حوالي عشرين بالمائة من السكان، هؤلاء يمتلكون وحدهم ما لا يقل عن نصف ثروات البلد.. يرتبطون، إلى حد كبير، بمراكز القرار، لدرجة أن «المال والسلطة» هما بمثابة سكتين متوازيتين، متكاملتين، لا تستغني إحداهما عن الأخرى.. وهذه الحالة ليست وليدة اليوم.. هي متداولة في بلادنا منذ القرن السابع عشر، واستمرت بعد الاستقلال.. مصادر ثروتها وراثية، عائلية، ريعية، أو حتى تبييضية، أو من هنا وهناك... تتخذ لها مدارات متفاوتة حول «مراكز القرار»، لحماية ثرواتها، وضمان مصالحها، مقابل دعم «سياسي ومالي»، تقدمها إلى دواليب «السلطة».. خدمات مقابل خدمات. وما زال المال مرتبطا بالسياسة.. السياسة توفر فرصا متجددة للاغتناء السريع، وغطاءا آمنا للدخول في «نادي الأثرياء»! ومن يبحث عن مزيد من الثروة الخارقة، يتمركز في مواقع حول «السلطة».. ومن لا مال له، لا سياسة له.. وفي هذه المنظومة الأرستقراطية المصلحية، الانتهازية: لا ديمقراطية، ولا حقوق اجتماعية.. الطاغية واحدة: «الإيديولوجية الإقطاعية».. وما زالت الإقطاعية هي المتحكمة في الخبز اليومي للأغلبية الساحقة من سكان البلد! أغلبية السكان في فقر.. والأقلية في غنى هي في غنى عنه! الأقلية تضمن مواقعها الامتيازية، واستمرار نفوذها وثرواتها، بالتمركز في عمق مراكز القرار.. هكذا يواصل أفرادها التصاعد في مشاريعهم، واستثماراتهم، وبالتالي رفع أرباحهم ومداخياهم، إلى مستويات قصوى.. وتبقى «عقدة السلطة» هي الثابتة في أذهان هذه البورجوازية التي صارت تتقن استغلال «الدين»، واستغلال «الوطنية»: مفهومان يكرسان غسل الأدمغة، لإقناع بسطاء الناس بأنهم هم سبب تفقير أنفسهم، وسبب ضلالهم، ومصدر كل الفساد المستشري في البلد.. ويقف هؤلاء «البورجوازيون» المتأرجحون بين داخل وخارج القانون، خلف ارتفاع نسبة الفقر، بالشكل الذي تسبب في حراك اجتماعي لم يسبق له مثيل.. كما تسبب الوضع الاقتصادي المتأزم في نوع من الصراع بين الفقراء والأغنياء.. فقراء لا يملكون إلا فقرهم، وبدون أدنى حقوق.. لا صحة، لا تعليم، لا عدالة، لا إدارة... لا «والو»! وثلة الأغنياء يتحكمون في كل المؤسسات، بما فيها الحكومة والبرلمان وغيرهما.. وتخاطبهم مسيرات احتجاجية هنا وهناك: «يا هؤلاء! أنتم بضعة آلاف، تملكون أكثر من نصف ثروات البلد.. ولا تؤدون الضرائب، ولا تساهمون في التنمية الوطنية المطلوبة.. تتفرجون على الوطن، وهو في أزمة خانقة، على كل المستويات، ولا تهمكم إلا حماية مصالحكم...».. لا تفكرون إلا في أنفسكم. أنتم وحدكم، ولا آخر سواكم! ولا تعرفون إلا استغلال البلد.. ولا تكفون عن نهب ثروات البلد، وأراضي وعرق جبين الفقراء.. ثم تطيرون بهذه الثروات إلى سويسرا وغيرها من الأبناك الخارجية.. تصوروا أنكم غيرتم سلوككم، فأدخلتم هذه الأموال «الزائدة» إلى البلد، واستثمرتموها في الداخل، بدل تهريبها إلى الخارج، ألا يكون ذلك أجدى لكم، وللبلد، والمواطنين، وللسلم الاجتماعي؟ في هذه الحالة، تستطيعون توظيف أموالكم بطريقة قانونية، بما لكم من حقوق، وعليكم من واجبات، بعيدا عن جريمة التبييض، وما يواكبها من جرائم اقتصادية أنتم تقترفونها على حساب الاقتصاد الوطني، وضد رخائه وازدهاره، وضد كل سكان البلد.. لو استثمرتم هذه الأموال في داخل البلد، وأديتم ما عليكم من ضرائب، لكان ذلك أسلم وأجدى، لأن ضرائبكم ستكون من مصادر بناء المدارس والمستشفيات والأوراش الاستثمارية وغيرها من المرافق الضرورية لامتصاص البطالة، ولتنمية وتطوير البلد.. وبهذه الضرائب يتم إحداث انتعاشات تشغيلية لصالح الجميع.. ولكل البلد، بدل أن تتسببوا أنتم في جيوش متكاثرة من العاطلين الذين باتوا يشكلون إحدى منابع المشاكل الاجتماعية المستحفلة، بما فيها الجرائم التي تنتشر أكثر أكثر، بسبب التفاوت الطبقي الفاحش.. لكنكم لا تفكرون بهذه الطريقة البناءة.. تفكرون بطريقة إقطاعية تستغل الناس، وتستحوذ على أراضيهم، وعرق جبينهم، وكل حقوقهم.. وتتعاملون مع القضايا الاجتماعية وكأنها مجرد لعبة.. وأنتم في واقعكم لا تلعبون.. إنكم تسرقون حقوق غيركم! وتشكلون جماعات ضغط على السياسة والاقتصاد، وتستحوذون على المؤسسات المنبثقة عن «الانتخابات».. والقرارات أنتم توجهونها لمصالحكم.. ولا يستطيع أحد من الأغلبية الساحقة من سكان البلد، وهم الفقراء، أن يعارضكم، ما دامت «المعارضة الحزبية» هي نفسها مجرد تأثيث سلبي للمشهد السياسي.. والسياسة تسير بشكل لا يخدم إلا مصالحكم، أنتم كبار أثرياء البلد.. وليست عندنا استقلالية حدودية واضحة بين الاقتصاد والسياسة.. كل السلطات لا تخدم إلا فئة مهيمنة على الاقتصاد الوطني! - وكبريات «المعارك»، داخل أية دولة، تحدث بين الاقتصاد والسياسة.. لا سياسة بدون اقتصاد، ولا اقتصاد بدون سياسة! اثنان لا يفترقان.. وكل خلل في توزيع عادل لثروات البلد، يتسبب في خلل سياسي، وبالتالي الخلل في بقية أركان الدولة.. وهذا ما حصل عبر العصور، في كل مكان، من نزاعات وحروب وثورات.. وعندما يقع صراع بين السياسة والاقتصاد، تحدث حمى في جسم البلد.. ولا تكون البلاد معافاة، بدون إعادة السلم الاجتماعي إلى علاقات متوازنة بين السياسة والاقتصاد.. والربيع العربي جعلنا نحن استثناءا في منطقتنا الملتهبة.. ولكن الاستثناء لم يطل.. لقد طالنا نحن أيضا حراك اجتماعي يطالب بحقوق مشروعة. ووصل الالتهاب إلى مختلف فئات البلد.. والأثرياء يشكلون مزيدا من جماعات الضغط لحماية مصالحهم.. والفقراء، والمنتمون للطبقة المتوسطة، لا يجدون من وسيلة للدفاع عن حقوقهم، سوى الصراخ، واللافتات في الشوارع، والتعرض لهراوات السلطة، ومحاكمات قاسية.. وهذا واقعنا الجديد.. واقع أنتجه الخلل بين تدبير سياسي وتدبير اقتصادي.. والحل هو الفصل بين السياسة والتجارة، والفصل بين السياسة والدين.. إن السياسة سلاح ذو حدين.. قد يعطيك كل شيء، ويأخذ منك كل شيء! ومن المفروض أن تشتغل السياسة في إطار حدودها.. تخطط وتراقب وتوجه، ولا تسمح لأي كان بالركوب على ظهرها! [email protected]