الزمن المغربي راهنا خرج عن دورة الهدوء والارتياح؛ ففي كل منعطف، يندلع احتجاج اجتماعي هنا أو هنالك على امتداد جغرافية البلاد، تجوب فيه النساء والرجال وحتى الأطفال والشيوخ الشوارع والطرقات، منددين بالتعسف الاجتماعي، ومطالبين بحقهم في الضروري من مرافق الحياة، مدرسة أو مستشفى أو طريقا أو إدارة أو جامعة؛ بل إن الأفدح من ذلك هو أن تخرج بعض القرى تجأر بالشكوى من العطش، وتستغيث طلبا للماء وفي بلد الماء. أما الريف النازف فلا يزال الجرح منه يقض للمضاجع، والغيوم في سمائه تستعصي على الانقشاع، لاستعصاء وجود إرادة حاسمة ترأب الصدع، وتسكن النفوس الموتورة، وتهدئ المخاوف المشبوبة، وتنشر على الجميع هيبة المواطن وهيبة الدولة، إذ لاقيمة ولا فاعلية للهيبة إذا لم تكن مصونة للمواطن والدولة معا وسواء بسواء. لكن الأمور تزداد تعقيدا دون أن تلامس الحلول، والأوضاع تتفاقم سوءا فلا تفاؤل بالاستقرار، لأن الدولة لا ترى وسيلة تفرض بها هيبتها في مواجهة هذه الاحتجاجات سوى أن تطوقها بالقمع والاعتقالات والمتابعات والمحاكمات، وأن تملأ السجون بساكنة جديدة، تحتسب المحاكم أصحابها جناة بحق القانون، ويحتسبها الشعب رموز نضال وشرفاء اعتقال سياسي. وإن أخطر آفة تتسلط على الدول فتوهن صلابتها وتذهب بريحها وتقزم هيبتها هي ما تنزلق إليه من قمع أمني وقضائي، فتسقط في تكثير سواد المعتقلين السياسيين، وبموازاة ذلك يتضاعف كم المنفيين السياسيين. وهكذا، وفي سبيل تثبيت هيبة الدولة في وجه تطاول الاحتجاجات الشعبية الاجتماعية المحقة في مطالبها، في سبيل ذلك، تفقد الدولة هيبتها، لأنها تصبح في مواجهة معارضة سياسية، لا قبل لها بها، هي التي تسببت في توليدها، بالمقاربة الأمنية والقضائية الزجرية، بعد أن كانت من قبل مجرد احتجاج فئوي، ومحض حراك اجتماعي. وهنا تصبح الدولة أسيرة ورطة سياسية، تزداد خطورة كلما مضت هذه الدولة بعيدا في إحكام قبضتها على خناق الاحتجاج الاجتماعي، وعلى حصار معتقليه في السجون، الذين يصبحون في تصنيف المنتظم الحقوقي في الداخل والخارج: معتقلين سياسيين، ومن ثَمَّ يحتلون الصدارة في تقارير وأجندات ونضالات الحركة الحقوقية الوطنية والدولية بالمطالبة بإطلاق سراحهم، ويتحول هذا الاعتقال السياسي تبعا لذلك إلى مادة إعلامية صارخة في الدعاية المضادة لسمعة الدولة سياسيا وحقوقيا. والمغرب الذي راكم خلال العقود الأخيرة رصيدا مهما من ثقافة الانفراج والمصالحة والحوار، بإجراءاتها ومؤسساتها، هو في غنى عن أن يتورط في هذا المأزق الاجتماعي والسياسي، والذي قد يزج بالبلاد في نفق مظلم لا يعرف له أول من آخر. فإذا كان المغرب قد أغرق سياسته، فيما سبق، في لجة ما عرف بسنوات القمع والجمر والرصاص، وهي فترة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، فإنه استطاع أن يتحلل من أغلال هذا الخيار المظلم، مطلع التسعينيات، عندما قرر الحسن الثاني أن يدشن عهد الانفراج السياسي بإحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، والذي أوكل إليه التمهيد للمصالحة السياسية الكبرى في تاريخ المغرب المستقل، عندما أعلن فيها الملك العفو السياسي الكبير سنة 1994 عن المعتقلين والمنفيين السياسيين، وقرر تطهير الحياة السياسية من كل شوائب الماضي وطي صفحة سواد هذا الماضي. ثم توج هذا المسار بالمفاوضات مع المعارضة السياسية، التي قبلت العرض الملكي بالخروج من حالة الرفض والصدام، والتعاقد الجديد على أساس التعاون والشراكة في الحكم، والذي تجسد من خلال حكومة التناوب سنة 1998: حكومة عبد الرحمان اليوسفي، وتبلور بالمرجعية السياسية لدستور 1996. ثم ترسخ هذا الخيار التصالحي في بداية العهد الجديد، بإدانة الدولة لماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وبمقتضى قرار الملك محمد السادس تأسيس اللجنة المستقلة للتحكيم، وتعيين نخبة الحقوقيين بها للنظر في جبر أضرار ضحايا القمع التعسفي لسنوات الرصاص، وهو ما أفضى أيضا إلى القرار الملكي بإحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، والتي أسست لفلسفة الدولة المغربية وخيارها السياسي والإيديولوجي والحقوقي بالقطيعة مع الماضي، والإقلاع نحو المستقبل بسياسة المصالحة والحوار وتغليب أجواء الانفراج على تقاليد التشنج والتوتر والتسلط. وهي السياسة ذاتها والفلسفة عينها التي استمد منها الخطاب الملكي بتاريخ تاسع مارس 2011 روح الاختيار الدستوري الجديد، بإعلان الملك الوعد بإقرار دستوري جديد تجاوبا مع المطالب الشعبية في موجة الربيع العربي وإعصاره الجارف. وانتهى المغرب إلى صيانة تماسكه السياسي والاجتماعي، وحماية استقراره، باستلهام روح المصالحة والانفراج، وتكريس مضمونها في العقد الدستوري الجديد، في الفاتح من يوليوز 2011. فهلا استوحى المغرب سياسته في معالجة ظروف الاضطراب الاجتماعي من مشكاة هذا الدرب التصالحي المضيء؟ *محام