الفلسفةُ قبل كل شيء ليست هدفا، بل هي قدرٌ محتُوم، كما أن الفلسفة ليست لها أنياب ولا أظافر، غير أن الفلسفة تَعْرِفُ من أين تؤكَلُ الكتِف. إِنَّ ما يَقَعُ الآنَ في حَلَبٍ وتَفْجيرُ العِراقِ، وإِتْلافُ البَشَرِ والحَجَرِ والشَّجَرِ في هيروشيما، وأماكن أخرى، تَجْعَلُنا أمامَ كائِنٍ مُخْجِلٍ بِنَذالَتِهِ وحَقارَتِهِ وخَساستهc'est la honte d'être un homme . الخَجَلُ مِنْ وَحْشِيَّةِ الإِنْسانِ هُوَ المُبَرِّرُ الأَساسِيُّ لِضَرورَة الفلسَفَةِ والأَدَبِ والفنونِ. وَلَقَدْ عَبَّرَ عَنْ ذلكَ الكَاتِبُ الإيطالِيّ "بْريمو ليفي" فَوْرَ خُروجِهِ مِنْ مُعَسْكَراتِ الإِبادَةِ الناَّزِيّةِ. إِنَّ مُبَرِّرَ الفَلْسَفَةِ والأَدَبِ والفُنونِ هُوَ مُقَاوَمَةُ وَحْشِيَّةِ البَشَرِ والدِّفاعُ عَنِ الحَياةِ وَتَحْريرها مِنْ اسْتِبْدادِ شَهْوَةِ الاسْتِعْبادِ والقَتْلِ. لقد عَملَتْ الفَلْسَفَةُ منذ نَشْأَتِها على الدِّفاعِ عن الحياةِ وتَحْريرها، إن الفلسفة ليستْ اختيّارًا مِنْ بَيْنِ اخْتِيّاراتٍ أُخْرى، بل هي ضَرورَةٌ قُصْوى ومُسْتَعْجَلَة. الفلسفة أوّلاً هي مُقاوَمَةٌ وَصِراعٌ ضدّ التّفاهة والوضاعة والانحطاط على مستوى الفكر والحياة معاً. تاريخ الفلسفة هو تاريخ المقاومة. فَمِن سقراط الذي ضحّى بحياته من أجل معرفة الحقيقة، وقول الحقيقة عن الذّات، ومقاومة خطر نسيان الذّات، إلى أرسطو الذي قسّم القضايا إلى: صادقة وكاذبة، فتلخّص منطقه في مقاومة الكذب، إلى ديكارت الذي قاوم الخطأ ووضع قواعد بسيطة، واضحة ومتميّزة للعقل، ثمّ كانط الذي قاوم القُصُور والوِصَايَة… ثمّ تظهر الفلسفة مُقاوَمَةً للوهم وبعد ذلك ضدّ الإيديولوجيا، الخ... مقاومة النّسيان والكذب والخطأ والوهم والقصور والوصاية والإيديولوجيا وغير ذلك، هي محاولات تحصين الفكر والحياة من التّفاهة والوضاعة والانحطاط. الفلسفة هي قبل كلّ شيء صداقة ومحبّة وعشق: Philo، هذا النّزوع العشقي هو ترسيخ علاقات الصّداقة بين الفلسفة والأدب والفنون، والفلسفة هي فعاليّة إبداعيّة مهمّتها إنتاج وخلق وإبداع المفاهيم، أي إضفاء قيمة ومعنى على حياة الأفراد والشّعوب، ويشكّل إنتاج المعاني والقيّم المنسوبة إلى الحياة مسألة أساسيّة؛ ذلك أنّ إنتاج المعنى والقيمة ليس مسألة عرضيّة بل هو جوهر الحياة ونمط الوجود نفسه. ولِكُلٍّ المعتقدات والقيّم والأفكار التي يستحقّ، فالمعاني والأفكار والتّقييمات مرتبطة بطرق الوجود وأساليب الحياة، فهي ليست صُدْفَة أو هبة، بل إنّها تُكتسب بالاستحقاق. فكما أنه لا بدّ للشَّعْب من جنودٍ ينتجون الأمن والسّلام وجنود ينتجون المأكل والمسكن، فلابدّ له أيضاً من جنود ينتجون المعنى والقيمة والفكرة. لم نتعلم التحية لا في المجتمع ولا داخل الوسط العائلي بل تعلمتها من الفلسفة، فإذا التقى فيلسوفان اكتفيا بالتحية، وأصبحت الفلسفة ترافقني منذ الصباح إلى غروب الشمس، وكل يومِ يحمل في طَياتِهِ نوعا من السخرية، فلا جدوى من دراسة الفلسفة إن لم تسخر من نفسك. كون الفلسفة هي فن تشكيل وابتكار وصنع المفاهيم، يعني أن هناك ضرورة لذلك. فالفلسفة ليست تأمُّلاً Contemplation، ولا تفكيرا Réflexion، ولا تواصلا Communication، حتى وإن كان لها أن تعتقد تارة أنها هذا وتارة أنها ذاك، الفلسفة هي: حُبُّ وعشق وصداقة: Philo- الحكمة Sophie، إن الأصل الإغريقي للكلمة يدل على ذلك (Philo - sophie هذا النزوع العشقي الذي تنطوي عليه الفلسفة يدفعنا إلى التفكير في المعشوق أو في الصديق والحبيب الذي هو الحكمة. يتساءل جيل دولوز: "ما معنى الصديق حين يصبح شخصية مفهومية أو شرطا لممارسة الفكر؟ ألا يعني ذلك أن الصديق سوف يُدْرِجُ حتى في الفكر، علاقةً حيوية مع الآخر الذي اعتقدنا إقصاءه من الفكر الخالص؟ أوَ لا يتعلق الأمر بكائن آخر غير الصديق والعاشق؟ لأنه إذا كان الفيلسوف هو صديق الحكمة أو عاشقها، أفليس ذلك راجعا إلى كونه يدّعي هذا الأمر ببذل المجهود على مستوى القوة بدل امتلاكها بالفعل؟ ألن يكون الصديق كذلك هو الراغب، والموضوع الذي تحصل عليه الرغبة هو الذي سيقال عنه إنه الصديق، وليس الموضوع الثالث الذي قد يغدو على العكس منافسا؟ ألا يمكن للصداقة أن تنطوي على حذر تنافسي مقابل الند بقدر ما تنطوي على نزوع عشقي نحو موضوع الرغبة؟ إن الصداقة والحب والفلسفة دائما في حالة ترادُف". لقد كانت بركة الشيخ أو الفقيه حاضرةَ بقوة منذ القِدم، ولكن جاءت الفلسفة لتُهدّم مداميك الخرافة والوهم، والفلسفة أيضا نجدها تتجذرُ وتتأصل في الأدب والرسم والموسيقى إلى غير ذلك. إن الفلسفة هي جذرُ الأدب فجميع الفلاسفة أدباء وجميعُ الأُدباء فلاسفة. الفلسفة هي معجِزةُ لن تتكرَرَ أبدا.