إن القارئ لأية رحلة حجازية علمية، وخاصة الفهرسية منها، يتأكد من طواف الرحالة المغاربة على مراكز العلم بالمشرق لملاقاة كبار العلماء والأدباء والمشايخ طلبا لأعالي العلوم والمعارف، منطلقين من القولة التي كانت سائدة، والتي تؤكد على إيجابيات أخذ العلوم من أفواه الرجال، وتجنب الاكتفاء بمطالعة الكتب والمؤلفات، ويؤكد على هذا قول ابن خلدون: "إن للرحلة في طلب العلم لاكتساب الفوائد ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم، فالرحلة لا بد منها في طلب العلم، والفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال".1 ولعل الذي ساعد على تنمية هذا الاهتمام وعلى هذه الرغبة في الرحلة عند المغاربة هو الموقع الجغرافي للمغرب، ببعده عن الشرق والحجاز من جهة، وإطلاله على القارة الأوروبية من جهة ثانية. ولهذا، انتظمت رحلات المغاربة للأقطار المختلفة، شرقا وغربا، بلادا إسلامية وغير إسلامية، وإن كنا وجدنا أن الحجاز يستقطب أكثر المغاربة ويستهويهم، ويجذبهم نحوه، بل هو منتهى سفرهم، والمدينةالمنورة دار للعلوم والمعارف. من هذا المنطلق ، يمكننا القول: إن هذا النوع من الرحلات نابع بالأساس - بكل عناصره الدينية والعلمية- من شعور المغاربة بالبعد المكاني عن المناطق المقدسة. ومن ثمة لم يكتف معظم الحجاج المغاربة بقضاء مناسك الحج مرة واحدة، بل بمجرد الرجوع إلى بلدهم "يسرعون إلى العودة من جديد ... ولشدة التعلق بالحجاز..كان ركب الحجيج المغربي يطيل مقامه هناك، فيستقر لفترة طويلة بمكة أو المدينة أو بهما معا، حتى يشبع رغبته ويروي ظمأه"2. إن يوم خروج الحاج المغربي، حينما يكون متوجها إلى الحجاز، يكون يوما موعودا ومشهودا، قل من يبقى بالمدينة "إلا خرج، ودب ودرج، الرجال والولدان، والأحرار والعبدان، فما ترى أعجب من ذلك اليوم ولا أحسن منه منظرا أو مخبرا، يروق البصر ويميل بالفكر عادة جميلة استندوا إليها وطبيعة جبلوا عليها"3. وبالرغم من ذلك، لا يمكننا أن نسلم بأحادية الدافع إلى الرحلة، وتجاهل الدوافع الأخرى التي كانت نتيجة لها، وعلى رأسها الدافع العلمي، والمجاهد من أجله، والراحل في سبيله عن طريق الاتصال بكبار العلماء والأدباء والمفكرين، لتحقيق الروايات وأخذ الأسانيد والإجازات، والإطلاع على المؤلفات، ومناقشة المسائل العلمية والنوازل الأدبية، حتى ينتهز الراحل فرصة هذا السفر الطويل الذي يبتدئ من المغرب مرورا بمصر وانتهاء بالحرمين الشريفين. وكانت هذه المناطق تمثل الخط الجغرافي الذي يسير فيه ركب الحجيج المغربي، من أيام بني مرين، بحيث يقف الراحل بكل عواصم العلم التي يمر بها في طريقه، ويصفها ويذكر مساجدها ومآثرها، وعلماءها وأدباءها. لقد كان الحج إذن يسمح بكثير من الاتصالات الفكرية بين العلماء؛ فالمسافر كان يتوقف بطرابلس والإسكندرية، وأحيانا كان يصعد حتى اليمن، كما كان العالم المغربي يأخذ ويعطي بعض الدروس، فكانت هذه الاتصالات - غالبا- تتوج بإجازات في مختلف العلوم والفنون والآداب، يتبادلها العلماء والأدباء فيما بينهم. ويعتبر العلامة محمد ابن أبي بكر الدلائي وأبو سالم العياشي وأحمد المقري من أوائل الرحالين إلى الحجاز، بحيث تعرفوا على الحياة العلمية والفكرية بالمشرق، واتصلوا بعلمائها وفقهائها، ودرسوا معهم مختلف القضايا المعرفية، كما درسوا وصنفوا وأضاؤوا بفكرهم وعلمهم طلاب العلم هناك. بل والأكثر من هذا، منهم من جادت قريحته بتآليف، مثل أبي سالم العياشي، الذي ألف رحلته المسماة: "ماء الموائد"، كذلك الأمر بالنسبة إلى محمد الحاج الدلائي، الذي ألف كتابين، هما: "فتح المتعال في مدح النعال" و"أزهار الكمامة في أخبار العمامة". كما كانت هذه الرحلات المغربية إلى الديار المقدسة من الأسباب الأساسية للإبداع الشعري، وتفتق قرائح الشعراء، كما وقع للشاعر محمد المرابط، وهو يتهيأ للخروج في ركب للحج، فانشرح صدره ، وازداد غبطة وسرورا، وتراءت له معالم طيبة، فأنشأ قصيدة طويلة يقول في مطلعها: هذي معالم طيبة يا ساري ** فأرق مآقي طرفك المدرار فرحا بمشهد خير من وطئ الثرى** وسمت به سرورا آل نزار4 كما نظم ابن الشاعر محمد بن محمد المرابط في إحدى رحلاته إلى الديار المقدسة قصيدة دالية تناهز ستة وثلاثين ومائة بيت، (136) سماها "الرحلة المقدسة"، وهي عبارة عن نظم للمراحل التي كان يمر منها حجاجنا المغاربة من باب الفتوح بمدينة فاس إلى المدينةالمنورة، مرورا بطرابلس، ويستمر في رسم خريطة السفر، وبيان مميزات بعض الأماكن التي يمرون بها، ليخلص إلى مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، خاتما قصيدته بالتوسل والدعاء، يقول في مطلع هذه القصيدة: زم الهوادج واتئد يا حادي ** فلقد حملت بها جميع فؤادي وتركتني عافي الحشى متولها ** ذا زفرة تذكي بقلب الصادي5 هكذا إذن، تزايدت صلات أدباء وعلماء المغرب بإخوانهم في المشرق عن طريق رحلات ركب الحجاج المنتظم سنويا، وما نتج عن هذه الصلات المتزايدة من إنتاجات فكرية وتلاقحات معرفية، نتيجة الأخذ والعطاء، والتأثير والتأثر. وإذا أضفنا إلى ذلك تبادل الإجازات بين علماء المغرب والمشرق، وانتقال التصانيف العلمية والأدبية بين مختلف المراكز العلمية بين الجانبين، أمكن تصور جسر التبادل الثقافي والمعرفي بين البلدين. وقد كان طالب العلم بالمغرب إذا ما اجتاز مرحلة تكوينه العلمي يشد الرحال إلى المشرق بنية الحج الديني، والحج العلمي - إن صح هذا التعبير- ، وهذا ما جعل الحج من الفرائض التي يحرص كل مغربي على أدائها، والدارس والباحث ينتقل من مدينة علمية إلى أخرى من أجل الاستفادة والإفادة، وقد تطول مثل هذه الرحلات العلمية إلى المشرق، وتعاد أحيانا بحسب همة الباحث المعرفية، وقوة تطلعه إلى الثقافة والفكر. وهذا ما يفسر لنا تأصل فريضة الرحلة الحجية / العلمية عند المغاربة؛ فالرحلة العلمية دعت إلى الحج، والحج دعا إلى الرحلة العلمية، وكأنهما وجهان لعملة واحدة. ونذكر من تقاليد ركب الحجيج المغربي أنه كان يحمل معه "هدايا للحرمين الشريفين، تتألف من مصاحف مهمة، وكتب قيمة، وجواهر فاخرة، كما يحمل هدايا فائقة لملوك الحرمين الشريفين، كما أن بعض الملوك المغاربة يضيفون لتلك الهدايا المتنوعة رسائل يهدونها لروح الرسول صلى الله عليه وسلم، يؤكدون فيها ولاءهم وإخلاصهم للجناب النبوي، ويتضرعون إلى الله في حل أزماتهم"6. كان من الطبعي، إذن، أن يحرص المغاربة على أداء فريضة الحج إلى البقاع المقدسة، وأن يصبح الحج من أهم الوشائج التي ربطت بين المشرق والمغرب، وعملت على توحيد الثقافة في سائر أنحاء الوطن الإسلامي. ولعل البعد الجغرافي بين المغرب والبقاع المقدسة قد زاد من حرص المغاربة على أداء فريضة الحج، والتردد على مراكز الثقافة العربية والإسلامية في المشرق، سواء في مكةوالمدينة ، أو البصرة والكوفة، أو بغداد ومصر، وغيرها من الأماكن العلمية الأخرى، كما كان الوسط الاجتماعي - طبعا- مشبعا بالحس الديني، وهو ما أدى إلى ارتباط عضوي وحميمي بين ما هو ديني وما هو علمي. الهوامش: 1 - عبد الرحمن بن خلدون، "المقدمة "، ط1، 1993، دار الكتب العلمية، بيروت، ص:476. 2 - حسن الشاهدي، "أدب الرحلة بالمغرب في العصر المريني"، مطبعة عكاظ، الرباط، ج1/49. 3 - محمد المنوني، "ركب الحاج المغربي"، مطبعة تطوان، المخزن، طبعة 1953، ص:15. 4 - محمد المرابط وابنه محمد "الديوان"، مخطوط بالخزانة العامة بالرباط، رقم:3644 د، ص: 12. 5 - نفسه، ص: 116. 6 - محمد المنوني، مرجع سابق، ص: 25.