وقفت أتأمل أضواء الليل الذي يعبر بنا، فقلت في نفسي: النخلات السامقات لا ترحل مادامت ثمارها وظلالها باقية على امتداد السنين، لن يرحل أبداً من تصل كلماته الأفق بكثافة الجوهر وتورق بين هذا الكوكب إلى بعيد المدى، لأنه ببساطة هنا وفي كل مكان.. حين أستحضر الأديب الإعلامي والمفكر السياسي الأستاذ عبد الكريم غلاب (1919 / 2017)، أستحضر أحد الطالعين إلى زمنه بعذوبة الضوء..أستحضر تاريخا ذاتيا وجماعيا ومشروعاً ثقافياً وأدبياً استثنائياً.. انطلق من حِكمة القرويين إلى القاهرة التي تبوح بأسرارها، وأسس لثقافة عربية تتكشف عن إمكانات هائلة، ترسخت بحقائق الحياة وإيقاعاتها، وتناولت قضايا الواقع المغربي، والفعل الإنساني. فكان صاحب "مع الشعب"، بنظراته السديدة والمتزنة، يخوض معاركه الإعلامية الضخمة التي تملؤها الأفكار والمثل والعواطف، واضعاً قلبه في المكان الصحيح. أذكر أنني التقيت الرجل مرة واحدة سنة 2004 بمكتبه بجريدة "العلم"، التي اقتسم معها شمعة عمره.. كان له من الهيبة والوقار الكثير، وجدته محفوفاً بصمت غفير في بساطته وصلابته، وهو في الطريق إلى نفسه، يختلط دما وخلايا مع ركنه الأسبوعي "حديث الأربعاء"، سلمت عليه وتحادثنا باقتضاب شديد وحثني على المزيد من الإبداع وانصرفت؛ فقلت في سري هذا شأن المحبين الكبار يقيسون الزمن بالذهب ويقيسون الصمت بالتأمل ويسافرون أبعد مما تضيء الكتابة كالمتصوفة في مقاماتهم. غلاب صلات تتوهج بالسمو المعرفي والموقفي.. يمتطي زورقه ويشرع أجنحته عائداً صوب النبع إلى أبعد مما نرى وأقرب مما نقول. عاشت فاس اخضرار طفولته ومهوى المعرفة، وكانت نبع الماء وحكايات المواقف وضروب الأدب والفن، تقرأ سيرته وترسم مساره، متجذرة في فعل يغتني على الدوام.. تحث صاحب "سبعة أبواب" أن يخرج من عاداته الصغيرة ويمشي صوب عتاقتها وأزمنتها التي تفتح له أقواسها الواسعة وصوتها الحر، ليؤسس أفكاراً وطموحات كبرى، تشمل ماضي اللحظات، حاضرها، ومستقبلها، ويكون بالتالي محركاً للفعل والقول، مدفوعاً بالتمام والشمولية في التفكير، وبحسّ متوتر، ليكتب مواقفه من قضايا الحياة ويلمح الحقيقة في ثنايا التاريخ المُعتم. السي عبد الكريم قطعة نفيسة قلّما تجود بها أمواج الأقلام، جعل الوطن في شراك محبته، مداده بوصلته وفكره بلاغته، أثار أسئلة ما تزال تنبض جدلا وتغري بالمناقشة. فكيف نعثر على مصبّات هذا النّهر من جديد؟ وكيف نقطف الحلم مرة ثانية؟ بعدما قادنا إلى تفكيره المترابط وخلق مناخات ثقافية منفتحة على هموم المجتمع بكل آماله في الحرية والتقدم، وقاس العمل الأدبي بدرجة الوعي وبنضالية الثقافة وبالاستدلال العقلاني. حينما هاتفت صديقي الفنان مبارك بوعلي المقيم بكندا لأخبره عن الفقد الجلل وفداحة الرّحيل، وجدت في حنجرته تأثراً عميقاً، قال لي: "أنهكتنا الغيابات"، واستجمع ذاكرته إلى سنوات مضت حينما كان مرافقاً لغلاب، حيث أسرّ لي عن جوانب أخرى من يومياته. عبد الكريم غلاب، المعروف بالعمل الدؤوب الذي امتاز بالعمق والدقة، سواء بالجريدة أو في البيت أو بأكاديمية المملكة التي كان عضواً فيها..كانت له طقوس في الحياة بين الكتابة والقراءة والمشي، وظل وفياً لهذا الجسر الروحي والجسدي، مواظباً عليه وعلى حمية في الأكل.. كما كان نموذجاً للالتزام، متابعاً لكل الأنشطة الثقافية والإعلامية .. غلاّب الذي توجّس من "الشيخوخة الظالمة" فقال: "أشد ما أخشاه أن يسقط القلم من يدي يوما". كتب القصة القصيرة والرواية وغاص في بحور الفكر السياسي والفقه الدستوري وحفر في تاريخ المغرب ونظّر في رحاب الوطنية، وخلّف آلاف المقالات وأكثر من سبعيناً مؤلفاً تقاطعت فيها مرايا متكاملة لا متناهية. وما روايته "دفنا الماضي" إلا واحدة من الروايات المُؤسسة التي تناولت التغيير الاجتماعي وجسّدت أوجاع مرحلة التحوّل من المجتمع الرّازح تحت سيطرة الاستعمار، إلى مجتمع عليه الأخذ بزمام المبادرة والبناء. انشغل عبد الكريم غلاب بقيم العدالة الاجتماعية في مغزاها الكوني، وأبرز دور المثقف ومكانته في المجتمع معتبراً أن "دور الثقافة كوسيلة إيجابية متحررة في نهضة العالم المتقدم لم يكن دوراً صغيراً، ولكنه كان دوراً فعالا في كل مجال من مجالات النهضة الحديثة، وخاصة مجال عودة الاعتبار إلى الإنسان ووضعه الوضع اللائق به كرأسمال ضخم في كل تطور اقتصادي واجتماعي وعمراني". (في الثقافة والأدب ص: 17/18). على روحك واسع الرحمات...فلتنم قرير العين في فسيح السّماء أيها "المعلم"، لأنك بصفاء متناه كنت "غلاّب".