حين علمت بوفاة الأستاذ خالد مشبال، غمرتني سحابة من ذكريات وشجون، وارتدت بي المخيلة إلى سنوات التسعينيات من القران الآفل. يومها كان الراحل يحاول أن يلملم جراح كبريائه الإعلامي والإنساني، إثر "تسريحه" ظلما وعدوانا من إذاعة طنجة التي صنع مجدها أولا بأول، وإحالته على التقاعد الإجباري يإيعاز من وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، يومها كان يحاول أن يعوض عن الغدر الذي لحقه من وزارة الداخلية، ومن بعض ذوي القربى في المهنة، بالتأسيس لمشروع إعلامي جهوي ببعد وطني. وكان قد بدأ في إصدار الأعداد الأولى من جريدة (الشمال 2000)، وشرع يبحث عن "صحافيين" يخوضون معه رهان مشروع إعلامي جهوي رائد، قرأت بالصدفة إعلانا بهذا الخصوص، فأردت أن أجرب حظي في مضمار "صاحبة الجلالة"، ولاسيما بجوار واحد من الأعلام ورواد الإعلام الوطني في ظل الاستقلال؛ وذلك بحثا عن أفق أو مسار يضمن لي متسعا من الحرية ونصف رغيف مغموس بالكرامة؛ ذلك كان يكفي آنذاك، هل ما يزال الآن؟! كان المطلوب ممن يرغب في الالتحاق بطاقم الجريدة أن يرسل نماذج من الأجناس الصحافية: أخبار، مقالات، تحقيقات...إلخ. جمعت أمري، واستحضرت كل مواهبي في الكتابة، التي لم تكن تتجاوز يومها محاولات متواضعة في القصة القصيرة، وبعد ثلاثة أيام من المكابدة، أعددت مادتين؛ الأولى عبارة عن مقال بعنوان "تهميش الشمال خطأ تاريخي وسياسي"، والثانية عبارة عن تحقيق حول الهجرة السرية، بعنوان: "قوارب الموت: يأس وآمال". أرسلت المادتين وجلست أنتظر، كانت الجريدة تصدر كل أسبوع، لم أتحمل الانتظار، فاتصلت بمقر الجريدة، فأدهشني ترحيب الأستاذ خالد مشبال، وتنويهه بالمادتين، وعلى الفور وافق على انضمامي إلى فريق العمل، مراسلا ومحررا، فرحت أيما فرح، وبدأت العمل بحماس حتى دون أن أستفسر عن شروط الاشتغال! وبدأت الجريدة تنشر أعمالي وتغطياتي ومقالاتي عن الشأن المحلي بالريف المغربي. نسيت في غمرة الفرحة التي أدركتني، والحماس الذي تملكني وتشجيع الأستاذ مشبال لي، أن ألتفت إلى المخاطر التي تحيط بعملي، وما هي إلا شهور حتى وجدت نفسي مبحوثا عني؛ إذ أخبرني أخي الذي كان يعمل كاتبا عاما بإحدى الجماعات بأن "الشؤون العامة بالعمالة يسألون عنك؟". ولما علمت أمي بالأمر، قالت: "مالك وهذه المتاعب؟! بينما لم أفهم لماذا يبحثون عني؟! ربما لأنني لم أكن أقدر المخاطر التي يمكن أن يسببها مقال أو تحقيق للسلطة! كنت مملوء بالحماس والحرية، قبل أن أستفيق في ما بعد على تنبيه من الأستاذ مشبال، حين أرسلت للجريدة حوارا "ساخنا" مع رئيس الكونجرس الأمازيغي حينذاك رشيد راخا، اتصل بي الراحل رحمه الله، وأبلغني بأن نشر هذا الحوار في الجريدة سيجلب لي وله متاعب جمة! في وقت كان فيه صدر وزارة الداخلية ضيقا وحرجا، قلت لخالد، نحن لا نتبنى بالضرورة آراء المحاور(بفتح الواو) ثم، "إن ناقل الكفر ليس بكافر". ضحك الأستاذ مشبال وأشفق علي، وقال لي، رجاء، مرة أخرى، استشرني. شعرت بأنني وضعته أمام تحد، فتحمل نشر الحوار، في وقت لم تكن تجرأ فيه أي وسيلة إعلام داخل المغرب إثارة موضوع الكونجرس الأمازيغي ومطالبه الثقافية والسياسية. وأثار النشر في إبانه زوبعة، لا أدري كيف تدبر الراحل أمر الخروج منها. وبعد مضي أشهر، ذهبت لملاقاة الأستاذ في مكتبه لتعزيز وضعيتي في الجريدة؛ إذ لم أكن قد تلقيت مليما واحدا عن عملي، فاكتشفت أن مشروع الجريدة هو مشروع نضالي مدني، أكثر منه مشروعا استثماريا تجاريا، وأن معظم العاملين والمساهمين فيه يفعلون ذلك من منطلق الغيرة والتضامن دون انتظار أجر، لكن خالدا لم يقل لي هذا صراحة، بل كان يشجعني بانتظار "غودو" = انفراج. كان متفائلا بنجاح المشروع، لكن تعرض الجريدة للمضايقات من هنا وهناك بسبب خطها التحريري الملتزم، أصابه باليأس ودخل في شبه عزلة. لذا بقيت أساهم في الجريدة حسب ظروفي، خاصة بعد أن انخرطت في مسارات أخرى، ولم أثر معه أبدا وضعي، اكتفيت منه ببطاقة وكلمات تشجيع وإطراء، لعلمي بالظروف المادية التي آلت إليها الجريدة، علما أنه كان بالإمكان الدخول في لعبة المقايضة مع السلطة، لكنه آثر طريق الحرية والكرامة، ونعم الطريق. رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جنانه، وألهم حرمه الكريمة آمنة السوسي وأسرته الصغيرة الصبر والسلوان. وإنا لله وإن إليه راجعون. *إعلامي وكاتب