الخطاب الملكي لعيد العرش خطاب نقدي انصب، على وجه الخصوص، على نقد الإدارة وأداء القطاع العام والمنتخبين والأحزاب أو "الطبقة السياسية" والعقليات والمسؤولين على اختلاف مواقعهم؛ وهو نقد يتطابق مع "لسان الشعب"، ومع مختلف الآراء المستاءة من الأوضاع القائمة، المتداولة في مختلف منابر وفضاءات التعبير الحر. وهذا ما يفسر التفاعل الشعبي معه، خاصة في ظل السياق الموضوعي الحالي المتميز بحراك اجتماعي نوعي تشكل الحسيمة طليعته. ولعل ما هو جوهري في هذا الخطاب ليس منطوقه الواضح الذي لا يحتاج إلى شارحين له، وإنما ما خلفه من أسئلة لا مفر من طرحها وتعميق النظر التحليلي والاستشرافي فيها، أكتفي هنا بطرح الأساسي منها: _ ألا يعكس خطاب العرش أزمة مركبة: سياسية واقتصادية واجتماعية ومؤسساتية؟ أزمة نظام وأحزاب ومجتمع؟ _ أليست للنظام السياسي للدولة مسؤولية في ما آل إليه وضع وأداء ومسلكيات "الطبقة السياسية"؟ _ أليس التردد في مباشرة إصلاحات سياسية عميقة (إصلاح المنظومة القانونية للانتخابات مثلا) وفي التفعيل الديمقراطي للدستور، في ضوء الدينامية المجتمعية الجديدة (غير المستوعبة) دور حاسم في الانحسار الديمقراطي للبلاد، كما عكست ذلك عبثية مشهد ما بعد انتخابات 7 أكتوبر وما تمخض عنه؟ _ وارتباطا بذلك، ألم يستنفد نمط الحكومات أو الائتلافات الحكومية العريضة مبرراته بعد إقرار دستور 2011؟ أليس التمادي في "فبركة" حكومات تتحكم فيها بيروقراطية وتكنقراطية الدولة إفقارا للحياة السياسية، وإفراغا للحكومة من أي محتوى سياسي؟ _ أليست للدولة يد ومسؤولية في إفساد الحقل الحزبي؟ خاصة بعد أن دخلته بقوة (من خلال حزب الجرار) باسم "الخلخلة وإعادة الهيكلة" وباسم "مواجهة الإسلاميين" وباسم "عرض سياسي جديد" وباسم ضرورة القطع مع "الأحزاب التاريخية التي شاخت" _ حسب زعمهم.._ ما أدى إلى ازدهار ثقافة الانتهازية والريع داخل الأحزاب، ومصادرة استقلالية قراراتها .. _ لماذا لم تتدخل الدولة لإيقاف الفاسدين والمفسدين في الحقل السياسي، وهي تعرف سوابق الكثير من عتاة الفساد الانتخابي والريع الاقتصادي، وهي التي تحتكر السلطة والعنف؟ _ ألا يستعيد المغرب اليوم ذاك الارتباك والتردد في مواجهة معادلة الدمقرطة السياسية والتنمية الاقتصادية والبشرية باعتبارهما وجهين لعملية سياسية واحدة تقتضي إرادة وتوافقات عميقة؟ هذا غيض من فيض أسئلة كثيرة لا بد من قراءة الخطاب الملكي في ضوئها بغاية توضيح الرؤية وتصحيح المسار وتعميق المكتسبات، التي لن ينكرها سوى جاحد.. فماذا بعد هذا الخطاب الذي ظل المغاربة يعلقون عليه آمالا في اتخاذ قرارات واجتراح حلول منصفة للحراك المتواصل بالحسيمة ومنطقة الريف؟ وما مداخل تصحيح اختلالات المسار السياسي للبلاد وإعادة الاعتبار للفعل السياسي كفعل مواطن (بكسر الطاء) نبيل؟ بخصوص حراك الحسيمة، فإن الانتظارات من الخطاب الملكي مازالت قائمة، والأمل أن تتلو خطاب العرش ومبادرة إطلاق سراح مجموعة من المعتقلين قرارات ومبادرات تفعل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة؛ وذلك بالإعلان عن نتائج التحقيقات، التي أمر بها الملك بخصوص تعثر إنجاز مشاريع "منارة المتوسط". وبالموازاة مع ذلك، فإن المقاربة القانونية المطلوبة لملف معتقلي الحراك لا ينبغي أن تلغي حيوية الاستجابة لمطلب إطلاق سراح بقية المعتقلين كمطلب شعبي واسع؛ وهو ما قد يشكل مدخلا لتجاوز هذا الاحتقان الذي طال أمده. إن الأزمة المركبة التي أضحت سمة بارزة للوضع السياسي العام بالبلاد، والتي عكس الخطاب الملكي بعض مظاهرها وأعراضها، لتؤكد الحاجة الملحة إلى إعادة هيكلة جديدة للمجال السياسي الوطني برمته، وذلك من خلال: _ التفعيل الديمقراطي لدستور 2011 نصا وروحا، بما يخرج العلاقة بين الحكومة والمؤسسة الملكية من قفص دستور 1996 ... _ الإصلاح الجذري للمنظومة القانونية للانتخابات باعتباره شرطا لازما لإعادة هيكلة الحقل الحزبي على أسس واضحة من جهة، ولتجاوز واقع البلقنة، وتعدديته الفسيفسائية العقيمة من جهة أخرى. _ وقوف الدولة، بمختلف أجهزتها، على مسافة واحدة في علاقتها بالأحزاب ورفع يدها من الشؤون الحزبية الداخلية ومن علاقات الأحزاب التنسيقية أو التحالفية فيما بينها.. وبكلمة، القطع نهائيا مع صيغة "حزب الدولة" التي أضرت كثيرا بمصداقية العمل السياسي عموما. ولا شك في أن ذلك يقتضي كمقدمة له تجديد الثقافة السياسية للنخب السياسية عامة والحزبية منها على وجه الخصوص. إن النقد الحاد والقاسي للأحزاب السياسية، المتداول على نطاق واسع ومخيف، لا ينبغي أن يغيب عنا جميعا بأنه لا ديمقراطية بدون أحزاب سياسية منظمة وهيكلة وسيدة قراراتها، أحزاب ذات هوية وكفاءات قادرة على الاضطلاع بمهامها في التأطير والتكوين والتعبئة من أجل التقدم الديمقراطي وحماية المصالح الوطنية العليا وتحقيق التطلعات الشعبية المشروعة في الخبز والشغل والصحة والحرية والكرامة. إن الأحزاب السياسية هي سند قوي للمؤسسة الملكية، وهي أساس يناء نظام ملكية برلمانية.. ومن هنا، ضرورة النهوض بأوضاعها وإصلاح اختلالات مساراتها واستعادة مصداقيتها بما يجعل منها قوة اجتماعية ومجتمعية حاملة لمشروع ديمقراطي حداثي تقدمي محتضن شعبيا؛ فبدون تحقيق ذلك، سيبقى أفق نظام الملكية البرلمانية بعيد المنال، بل مجرد سراب..