تابعت وأتابع باهتمام كبير النقاش الجاري حول رغبة الحكومة المغربية في "تعويم الدرهم"، وأهم ما أثارني روح الفكاهة المغربية التي صاحبت النقاش والتي لا تخلو من سخرية وعمق جاد في آن واحد. ودائما هناك هذا السؤال المشروع الذي يطرحه أي مواطن في العالم: ماذا سأربح أو أخسر إن تم تعويم عملتي الوطنية؟ في جميع دول العالم، لا يتم رفع يد الحكومة عن التحكم في مجال اقتصادي ما إلا وترتفع أصوات الاحتجاج، خصوصا لما يتعلق الأمر بالمجالات الاجتماعية (تحرير الأسعار وتركها لمنطق العرض والطلب مثلا). هذا طبيعي؛ لأن تحرير أي مجال اقتصادي يولد الخوف لدى المستهلك الذي يكون "محميا" ولا يصبح كذلك، وأي كائن أو قطاع اقتصادي أو اجتماعي يخرج من حالة "المحمي" إلى "اللامحمي" إلا ويكون ذلك دون إرادته. لكن الخطير والعبث أن يتم اتخاذ قرارات تحرير منعزلة دون مرافقتها بسياسات متكاملة تضمن حماية الفئات الهشة. على سبيل المثال، لا يمكن تحرير الأسعار ورفع الدعم عن المواد الغذائية الأساسية دون ضمان وجود حد أدنى للدخل يضمن العيش بكرامة لكل المواطنات والمواطنين. غير هذا يجعل التحرير بمثابة قرار بتجويع فئات واسعة من المجتمع. للتعريف بموضوع التعويم وهو تحرير صرف العملة، يمكن القول اختصارا بأن تعويم العملة هو ترك سعر صرفها يخضع لحركة العرض والطلب عليها في السوق الدولية، وأن تكف الدولة عن التحكم في سعر العملة إما بتحديد سعرها مباشرة أو بربط سعرها بإحدى العملات أو سلة عملات لدول أخرى أو لمجموعات دولية. ومن بين العوامل التي تساعد على ارتفاع سعر العملات هو الطلب على منتجات الدولة المعنية في الأسواق الدولية، أو ما يصطلح عليه بارتفاع الصادرات على حساب الواردات، وليس فقط من خلال ارتفاع شكلي، كأن تكون الواردات ضعيفة أصلا (بحكم الحواجز الجمركية مثلا)، بل أن يكون ارتفاع الصادرات نتيجة طبيعية لحركة اقتصادية حرة ونشيطة مبنية على النمو المتصاعد للطلب الخارجي على المنتوج الوطني الذي يأتي عبر اختراق المنتوج الوطني ذاته للأسواق الخارجية مع ضمان الوفرة في الإنتاج الوطني. إذن، إذا تم تعويم الدرهم وكان الطلب الدولي متصاعدا على المنتوج الوطني، فسعر العملة الوطنية سيرتفع، وبالتالي المنتوجات المستوردة ستكون بأسعار أقل. وفي حالة إذا لم يكن الطلب الخارجي قويا وكان الإستيراد أكبر، ستنخفض العملة الوطنية، وهنا سترتفع أسعار المواد المستوردة في السوق المحلي. إذا نجحت الحكومة في قلب الميزان التجاري لصالح ارتفاع الصادرات، فهذا سيكون نجاحا لها وللاقتصاد الوطني. آنذاك القدرة الشرائية للمستهلك في الداخل سترتفع، خصوصا بالنسبة للمواد المستوردة والمواد المنتجة محليا التي تتأثر أسعارها بأسعار المواد المستوردة. أما إذا فشلت الحكومة في قلب معادلة الميزان التجاري، فحتما الأسعار سترتفع بالنسبة للمواد المستوردة، وبالتالي المواد المنتجة محليا المتأثرة بأسعارها. ومع هذا، يمكن للحكومة أن تضمن استقرار أسعار المواد المستهلكة محليا في حالة واحدة هي ضمان عدم تأثر الإنتاج الوطني، وخصوصا إنتاج المواد الإستهلاكية، بأسعار المواد المستوردة، وهذا مستحيل بالنسبة للمغرب الذي يعتمد اقتصاده، إلى غاية اليوم، على استيراد النفط بشكل كبير. تعويم الدرهم قرار صعب جدا في سياسة أي حكومة ويحتوي على مخاطر كبيرة، لكن الحل ليس في رفضه وفقط، بل السير نحوه بإعداد الأرضية الاقتصادية الصلبة الكفيلة بجعله ينعكس بالإيجاب على الاقتصاد الوطني، وخصوصا بضمان نمو الصادرات على حساب الواردات؛ حيث يعتبر تعويم العملة الوطنية وسيلة لضمان هذا النمو، لكن ليس التعويم لوحده، بل التعويم يجب أن يكون من ضمن إنجازات عديدة أخرى يجب أن تتوفر، وإلا فالنتيجة ستكون انهيار الاقتصاد الوطني بالكامل وتدهور كبير للقدرة الشرائية للفئات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة. إذن، قرار تعويم العملة الوطنية يجب أن تصل إليه الحكومة بعدما تضمن مناعة اقتصادية متقدمة، وهنا يتحول التعويم إلى قرار إيجابي. أما استمرار رفض التعويم، فهذا يهدد باستمرار حياة اقتصادية مصطنعة ستنهار حتما يوما ما، والانهيار قد يكون مدويا. القول بلا جدوى تعويم العملة الوطنية موقف كسول بالمنطق الاقتصادي، والتأخر في التأهيل المؤدي إلى التعويم الطبيعي تعبير عن فشل في تدبير الزمن السياسي. إذا كانت العملة قادرة على السباحة، فتعويمها يكون إيجابيا، ستسمتع وتتمتع. أما إذا لم تكن قادرة، فحتما سيأكلها الحوت. لكن، عدم تعويم العملة بقرارات بيروقراطية قد يقيها من البلل إلى حين، لكن هذا لن يستطيع إيقاف زحف الأمواج، وبالتالي فمخاطر الغرق قائمة. لذا، فالحل والهدف الاقتصادي المنطقي هو الوصول إلى عملة قادرة على السباحة باقتدار! *كاتب وباحث، خبير في الحكامة الديمقراطية